شاعت في السنوات الأخيرة نوعية البرامج الاستقصائية الوثائقية التي تغطي رحلات قوارب الموت عبر البحار. ولم يكن ذلك ممكناً لولا الهجرات المتدافعة الواحدة تلو الأخرى، من أماكن يسيطر عليها الجوع والفقر والنزاعات المسلحة كما في سورية والعراق وأفغانستان وبعض دول أفريقية. لكنّ سياسة «الباب المفتوح» التي اعتمدتها «العمة مركل»، في إشارة الى كرم المستشارة الألمانية مع أمواج المهاجرين، قد أغلقت من جهة البوابة التركية – اليونانية (موقتاً على الأقل)، وصار مستحيلاً على هذه الرحلات أن تستمر بسبب اتفاقات الاتحاد الأوروبي مع الدولة التركية، وإن لاحت في الأفق تهديدات بفتح سواحلها أمام قوارب الموت لتغرق أوروبا مجدداً بعد فشل مفاوضات الانضمام الى دول الاتحاد. هذه العوائق التي حدت من الرحلات المميتة في بحر ايجه لم تؤثر في رحلات البحر المتوسط الآتية من السواحل الليبية، بعدما تحولت ليبيا نفسها الى خزّان بشري ضخم من طالبي اللجوء من الدول الأفريقية والعصابات التي تمتهن نقلهم في زوارق مطاطية أو خشبية متهالكة تبتلع معظمها مياه البحر، وغالباً ما ينتهي ركابها الى الموت غرقاً، من دون أمل كبير بالعثور على جثث معظمهم كما هي الحال مع عشرات القوارب التي ضلت طريقها ولم يعثر عليها أحد، على الرغم من بعض محاولات البحث الخجولة التي بالكاد تغطي مساحات صغيرة من مياه البحر المتوسط. في «مهمة خاصة»، البرنامج الذي أطلقته محطة «العربية»، يمكن المشاهد المهتم أن يتابع مع الزميلة علا مطيرة في حلقة بثت أخيراً بعنوان «الهروب من الموت» رحلة استقصائية مصورة تقوم بها سفينة الكرامة الإيطالية انطلاقاً من ميناء بوتزالو في جزيرة صقلية الإيطالية. وتنحصر مهمتها في متابعة حركة الزوارق التي تنطلق من الشواطئ الليبية محملة بالمهاجرين، والعمل على إنقاذهم قبل وقوع الكارثة خلال يومين لحسابات متعلقة بطبيعة السفينة وطاقمها. يتعرف المشاهد إلى القبطان لويس، رجل ستيني بشوارب كثة عريضة، مهتم برصد حركة «هؤلاء التعساء» عبر الرادار، أو عبر الاتصال مع مركز الرصد في الجزيرة الإيطالية، أو حتى من خلال المناظير المقربة. وبفضل حنكته ودربته أمكن العثور على أربعة زوارق مجموع ركابها يصل الى 480 راكباً، معظمهم من السودان ونيجيريا وتشاد وغينيا. يقول اللاجئ النيجيري اوساز أنه «على الرغم من أنه يرى البحر للمرة الأولى في حياته، فإنه يشعر بالسعادة والتيه في الوقت عينه». وفيما تظل عيناه معلقتين في الأفق البعيد متجاهلتين، كما يقول، «غموض البحر وغدره»، يمكن الاستماع الى شاب من السودان اسمه جبريل يحكي بحرقة عن تجربته في عبور ليبيا التي تحولت الى بقعة جغرافية مأهولة بالعصابات والقتلة من كل نوع، إذ «لم يكن ممكناً الابتعاد عن هذا الجحيم لولا العناية الإلهية». تتناوب شخصيات كثيرة من الطاقم على قول أشياء في غاية الأهمية عن رحلات مشابهة أمكن خلالها إنقاذ لاجئين كثيرين في مناسبات مختلفة شابتها أخطار محدقة، لكنّ العامل الإنساني كما يقول منسق عمليات منظمة أطباء بلا حدود على ظهر السفينة، نيكولاس باباتشري، يظل هو الأساس في عملهم، «إذ يكمن الفارق في ثانية». أي في اللحظة التي يمد فيها يده لامرأة تطلب المساعدة في قارب يتهاوى ويغرق ببطء وينتشلها نحو السفينة. هذه الثانية من الوقت تغير كل شيء في مصيرها. يومان مرّا على رحلة طاقم العربية مع «سفينة الكرامة» في عرض البحر غير بعيدين عن الشواطئ الليبية، أمكن خلالها التعرف إلى آليات الإنقاذ التي يبرع فيها القبطان لويس وطاقمه. ولولا ذلك «لما بقي هناك أدرينالين في الجسوم التي تقع في زوارق الموت المطاطية من دون سترات إنقاذ وهم عرضة للحروق والجروح التي لا يبخل بها ماء البحر المالح حين يقرر أن يصدم هذه الكائنات اللزجة الكريهة الممدة في بحر كبير بوسعه أن يبتلع كل شيء في أقل من ثانية»، كما يعلق أسامة عمران، المنسق الثقافي لعمليات منظمة أطباء بلا حدود. إنها صفة غامضة بلا شك، لا يمكن استيعابها للوهلة الأولى. فما هي هذه العمليات التي تحتاج الى تنسيق ثقافي؟ لكنّ الأكيد والأهم أن البحر كما عرضت له «مهمة خاصة» يظل أشد قسوة وغموضاً وقدرة على جر الصدمات الى ركاب الزوارق الذين يتم إنقاذهم وهم يعودون من رحلات الموت بسترات إنقاذ، فرحين بما ينجزه القبطان الإيطالي لويس في انتصاره لكرامة الإنسان.
مشاركة :