بعدما أقرّ الكونغرس قانون «العدالة ضد رعاة الإرهاب» (جاستا) الذي يُجيز للأفراد، بما في ذلك عائلات ضحايا اعتداءات 11 سبتمبر، مقاضاة دولة سيادية على ممارسات مواطنيها، في خطوةٍ تشكّل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، فُتِح الباب أمام إجراء تحقيق مستقل وشامل في الأحداث المحيطة بذلك اليوم الذي غيّر وجه الأرض. كان على المشرعين الأمريكيين أن يعملوا بالمثل القائل «لا توقظوا الكلاب النائمة». بعبارة أخرى، إذا كانت لدى المحاكم الأمريكية صلاحية التحقيق في الرابط بين حكومة أجنبية (على سبيل المثال الحكومة السعودية) وخاطفي الطائرات المنتمين إلى تنظيم «القاعدة»، مع العلم بأنه لا وجود لهذا الرابط، فلا شيء يمنع دولاً أخرى من إقرار قوانين مماثلة تتيح لقضاتها مطالبة الولايات المتحدة بتقديم أجوبة عن أسئلة لم يجب عنها حتى الآن أعضاء لجنة 11 سبتمبر. لا بد من التذكير في هذا الصدد بأن أكثر من 12 في المئة من ضحايا هجمات 11 سبتمبر (372 في المجموع) كانوا مواطنين أجانب قد يتقدم أقاربهم بدعاوى قانونية ضد الولايات المتحدة بتهم الإهمال والتقصير الجرمي أو غياب الشفافية أو غيرها. كتب كورت إيتشنوالد في صحيفة «نيويورك تايمز»: «في السادس من أغسطس 2001، تسلّم الرئيس جورج دبليو بوش مراجعة سرّية عن التهديدات» في إطار «التقرير المقتضب الذي يُقدَّم يومياً إلى الرئيس»، وفي ذلك الصباح «حمل التقرير العنوان الذي أصبح شهيراً وعرف فيما بعد بـ«بن لادن مصمم على شنّ هجوم في الولايات المتحدة». أضاف المقال أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي أيه) «ناشدت البيت الأبيض بشدّة الإقرار بأن بن لادن يشكّل خطراً حقيقياً». اعتباراً من مارس 2001، كانت التحذيرات من أجهزة الاستخبارات الخارجية تصل تباعاً إلى بوش، وبصورة مكثّفة وسريعة؛ وكان بعضها يتضمّن معلومات محددة. فقد كشفت عمليات تنصّت أجرتها إيطاليا على المكالمات الهاتفية بين عناصر خلية تابعة لتنظيم «القاعدة» عن مخطط للهجوم على الولايات المتحدة بواسطة الطائرات. وكذلك أعلمت مصر المسؤولين الأمريكيين بوجود 20 إرهابياً من تنظيم «القاعدة» داخل الأراضي الأمريكية، وبأن أربعة منهم يرتادون كليات لتعليم قيادة الطائرات. وقدّمت إسرائيل قائمة من 19 إرهابياً موجودين على الأراضي الأمريكية ويخطّطون لشنّ هجوم. ووصلت تحذيرات أخرى من المملكة المتحدة والأردن. قبلت غالبية عائلات الضحايا تعويضات من الحكومة الأمريكية -وقد بلغ متوسط التعويضات مليونَي دولار أمريكي- شرط التخلّي عن حقوقهم في مقاضاة شركات الطيران أو المطارات أو شركات التأمين أو سواها من المؤسسات الأمريكية التي يمكن أن تُحمَّل مسؤولية الخلل في الاستخبارات وعدم اتخاذ التدابير الأمنية المناسبة. كانت سيبل إدموندز، التي عملت مترجمة فورية لدى «مكتب التحقيقات الفدرالي» (إف بي آي) وأصبحت لاحقاً كاشفة أسراره، والتي وصفها «الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية» بأنها «أكثر مَن تعرَّض لكم الأفواه في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية»، تتمتع بتصريح أمني رفيع المستوى. وقد اكتشفت، خلال ترجمتها وثائق مكتوبة باللغات الفارسية والتركية والأذربيجانية مخططاً للهجوم على ناطحات سحاب في مدن أمريكية كبرى، ونبّهت المسؤولين عنها. فجرى صرفها على عجل وإسكاتها. قالت لاحقاً أمام لجنة 11 سبتمبر إن «مكتب التحقيقات الفدرالي» كان على علم بأن البلاد ستشهد هجوماً وشيكاً وبأن الإرهابيين كانوا داخل الأراضي الأمريكية. إذا كان بالإمكان اقتياد المملكة العربية السعودية أمام المحاكم الأمريكية بتهمة التآمر مع تنظيم «القاعدة» -الذي يعتبر المملكة عدوّه الأول- أو دعمه، فذلك سيفتح الباب أيضاً لقيام أي حكومة أو دولة بمحاسبة الولايات المتحدة على تهم مشابهة. تكشف إدموندز في مذكراتها «امرأة سرّية» (Classified Woman)، أنه كانت للبنتاغون والـ«سي آي أيه» ووزارة الخارجية الأمريكية روابط مع مقاتلي «القاعدة» حتى عام 2001، وأنهم كانوا متواطئين في أنشطة التنظيم التي سعت إلى زعزعة الاستقرار في آسيا الوسطى في إطار ما عُرِف بعملية «غلاديو ب». نشرت صحيفة «صنداي تايمز» سلسلة استقصائية من أربعة أجزاء أكّد فيها مسؤولون كبار مزاعم إدموندز، لكن لم تتم متابعة القصة تحت تأثير الضغوط من «مجموعات مصالح» لم يتم الكشف عن هويتها. لا نيّة لدي في الخوض في نظريات المؤامرة -بالرغم من أن هناك ميلاً إلى وصف الأشخاص ذوي الأسئلة المشروعة بالمتوهّمين- لكن لا مفرّ من الإقرار بأن الحقيقة تبقى غامضة؛ فقد تبين أنه قد جرى عمداً إخفاء جوانب كثيرة منها وحجبها عن الرأي العام. في مايو 2002، أوردت قناة «سي بي إس نيوز» أن جورج دبليو بوش وديك تشيني عارضا تشكيل «لجنة للتقصّي حول هجمات 11 سبتمبر». لقد فعلا كل ما بوسعهما لتعطيلها. وفي نهاية المطاف، لم تبصر اللجنة النور إلا بعد مرور 400 يوم. لماذا؟ لقد رفض كلاهما الإدلاء بشهادتهما تحت القسم وكذلك لم يسمحا بتسجيلها. عانت لجنة 11 سبتمبر من نقص شديد في التمويل، والعديد من أعضائها عيّنهم البيت الأبيض؛ وفقدَ آخرون مصداقيتهم بسبب تضارب المصالح. استقال عضو اللجنة ماكس كليلاند في ديسمبر 2003، واصفاً اللجنة بأنها «فضيحة وطنية»، قبل أن يضيف: «ذات يوم سنعرف القصة الكاملة لأن مسألة اعتداءات 11 سبتمبر مهمة جداً بالنسبة إلى الأمريكيين. لكن الإدارة الحالية تريد التعتيم على الأمور». يؤكّد رئيس لجنة 11 سبتمبر توماس كين ونائبه لي هاملتون في كتابهما «لا سابقة له» (Without Precedent) أن «فشل اللجنة كان أمراً مقدّراً ومحتوماً»، وأنها حُرِمت عمداً من التمويل، ما حال دون تمكّنها من إجراء تحقيق وافٍ وشامل. يؤكّدان أيضاً أن اللجنة مُنِعت من الوصول إلى الحقيقة وتعرّضت للتضليل من مسؤولين كبار في البنتاغون ومن هيئة الطيران الفدرالية، ويشيران إلى أن هذا التعطيل والخداع دفعاهما إلى التفكير في توجيه اتهامات جنائية إلى المسؤولين. ما تقدَّم مأخوذ من مقطع حاد اللهجة من الكتاب نشرته صحيفة «الغارديان» تحت عنوان «11 سبتمبر: التعتيم الكبير؟». وهنا قد تبرز تساؤلات عدة، منها أنه إذا كان هناك تعتيم، فما الذي يحاولون إخفاءه؟ هل هو فشل قيادة الدفاع الجوي لأمريكا الشمالية (نوراد) في اعتراض الطائرات التائهة بعدما اصطدمت الطائرة الأولى بمركز التجارة العالمي؟ هل هو الإسراع في شحن الأعمدة الفولاذية العائدة لمبنى مركز التجارة العالمي ونقلها على الفور إلى الصين والهند بناءً على أوامر عمدة نيويورك السابق رودي جيولياني قبل التمكّن من معاينتها؟ هل هو انفجار البرج 7 الذي لم تصطدم به أي طائرة، غير أن «اللجنة الفدرالية لإدارة الطوارئ» زعمت أن سبب الانفجار هو الحطام المشتعل الذي تطاير من البرجَين المجاورَين؟ لم يُقدَّم تفسير مقنع بعد لتعليل كيفية تمكّن الركاب على متن الطائرتَين من إجراء اتصالات من هواتفهم الجوّالة من على علوّ مرتفع مع العلم أن تقنية الاتصالات هذه لم تكن متاحة عام 2001، ولماذا ليس هناك شريط فيديو يُظهر اصطدام الطائرة بالبنتاغون الذي يُعتبَر من المباني الأكثر خضوعاً للمراقبة على وجه الأرض؟ والفيديو الوحيد المتوافر يُظهر لحظة الانفجار، علماً بأن «مكتب التحقيقات الفدرالي» قد صادر كافة الصور وأشرطة الفيديو الموجودة في عهدة الحكومة، بما فيها تلك التي التقطتها كاميرات خاصة. لمن يتلهّفون لاقتياد السعودية إلى المحاكم عبر الادّعاء أنهم يسعون خلف الحقيقة، الأجدى بهم أن يتقدّموا أيضاً بدعاوى ضد الحكومة الأمريكية و/أو أجهزتها على خلفية ما يبدو أنها محاولات كبرى للتعتيم على الحقائق. أما إن لم يفعلوا، فهذا يعني أنهم يرون في الرياض كبش فداء مناسباً لهم، تماماً كما فعلوا مع العراق. فقد رفع ذوو رجلَي أعمال لقيا مصرعهما في هجمات 11 سبتمبر دعاوى قضائية ضد العراق، وأصدر قاضٍ فدرالي قراراً بتغريم الحكومة العراقية عبر تسديد تعويضات بلغت قيمتها 64 مليون دولار، مع العلم أنه لم يثبت وجود أي رابط لصدام حسين مع تنظيم «القاعدة» أو أي تنظيم إرهابي آخر بحسب ما أكّدته الـ«سي آي أيه» فيما بعد. في الواقع، يأتي تقرير لجنة 11 سبتمبر على ذكر إيران، مشيراً إلى أنها سمحت لبعض خاطفي الطائرات بالتنقّل عبر أراضيها من دون الختم على جوازات سفرهم. وفي مارس من هذا العام، أصدر قاضي المحكمة الجزئية في الولايات المتحدة جورج دانييلز حكماً قضى بتغريم طهران تعويضات قدرها 7,5 مليارات دولار أمريكي لعائلات ضحايا 11 سبتمبر، و6,88 ملايين دولار في شكل تعويضات عقابية. كان من الأجدى بالكونغرس ألا يثير النعرات من جديد بعد 15 عاماً على اعتداءات 11 سبتمبر، في وقتٍ تَسلَّل فيه النسيان إلى أذهان الأكثرية الساحقة، ناهيك عن التداعيات التي سوف تؤثر سلباً على العلاقات الأمريكية-السعودية وعلى تدفقات الأموال، فضلاً عن أن قانون «جاستا» يشكّل سابقةً قد تدفع بدول أخرى إلى سنّ وإقرار قوانين مشابهة يمكن أن تُعرِّض الجنود والمسؤولين الأمريكيين للملاحقات القانونية في الخارج على خلفية ما يُسمّيه أوباما بتعبير ملطّف لا يعبّر عن الواقع، «كل العمل الذي نقوم به حول العالم». أصدر جورج دبليو بوش، قبل مغادرته منصبه، القرار التنفيذي رقم 13292 الذي يحظر الاطّلاع العام على المستندات المتعلقة بالأمن القومي لسنوات طويلة. ينبغي للكونغرس أن يكفّ عن التخبّط بحثاً عن بلد لإلقاء اللوم عليه. لقد أصبح الخاطفون في عداد الأموات، ولقي أسامة بن لادن مصرعه. الأجدر بالمشرعين الأمريكيين الدعوة إلى تشكيل لجنة مستقلة بكل ما للكلمة من معنى لتقصّي الحقائق حول اعتداءات 11 سبتمبر، إلا أنهم لن يُقدموا على ذلك لأنها ستكون كارثة وفضيحة وطنية وسوف تؤدّي إلى القضاء على حياتهم السياسية. أما السعودية فتُستهدَف بطريقة مخزية ومشينة.
مشاركة :