زياد الدريس يفضح الثقافة الإقصائية

  • 3/6/2014
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

يحلّ كتاب زياد الدريس «حروب الهويات الصغرى» في وقته المناسب، فصعود الحركات الأصولية التكفيرية إبان ما سمي «الربيع» العربي أعاد طرح مسألة الهوية في بعديها الفردي والجماعي، وباتت العودة إلى هذه المسألة ملحة جداً، لاسيما بعدما راجت موجة العنف الأيديولوجي المتواري خلف حجاب الدين. وقد أرفق الدريس عنوان كتابه (المركز الثقافي العربي 2014) بعنوان فرعي هو «في مكافحة التصنيفات الإقصائية»، ولعله يعبر عن المقاربة التي سعى إليها الكاتب لـ «تفكيك» الخطاب «الإقصائي» وكشف عناصره المكوّنة وتجلياته السياسية والاجتماعية. والتصنيف الذي يقصد الكاتب إليه هنا إنما هو القائم على «التعريض» لا التعريف، وهو بمثابة «الآفة « التي تنهش وحدة المجتمع، كما يعبر. ويبتدع الكاتب شعاراً أو مقولة بديعة تمثل حقيقة هذه الآفة وتفضح آليتها وهي «ملصقات التصنيف للإقصاء»، وتحتها تندرج عاهات الإقصاء مثل الحزبية الإقصائية والتجزيئية والحركات التكفيرية والأصوليات المغلقة والفكر «المؤامراتي» والإرهاب... إلا أن زياد الدريس، المتخصص أكاديمياً في سوسيولوجيا الثقافة (دكتوراه) يعمل على معالجة هذه «الآفة» المستفحلة اليوم في عالمنا العربي، سالكاً مسارين اثنين: الأول قائم على مكافحة «الحزبية» الإقصائية أو بالأحرى «الحزبوية» والثاني مكافحة تهمة «الحزبوية». لكنه لا يدّعي البتة أيجاد الدواء الناجع عبر هذه المكافحة، بل هو يقترح منهجاً تجريبياً للخوض في هذا الحقل الخطر و «المفخخ». ويرى أن هذين المسارين متداخلان في كثير من الأعراض، فالأول يهدف إلى مكافحة الحزبية الحقيقية والثاني إلى مكافحة الحزبية الوهمية، فالأوهام والحقائق متداخلة في الثقافة العربية الاجتماعية، تداخلاً عميقاً وليس عابراً، وقد يكون هو نفسه التداخل بين الأيديولوجي والميتولوجي. في مستهل كتابه يختار الدريس مقطعاً من كتاب أمين معلوف يدعم مشروعه النقدي، ومما ورد في المقطع هذا: «إن نظرتنا هي التي غالباً ما تسجن الآخرين داخل انتماءاتهم الضيقة، ونظرتنا هي التي تحررهم». وقد يكمن هنا جوهر مشروع الدريس التنويري، في تحرير «الآخر» من سجن النظرة الآسرة والضيقة هذه. ولئن كانت الهوية، كما يفيد علم السوسيولوجيا، هي عبارة عن رد فعل إزاء معطيات خارجية تختلف عنها بوصفها «أخرى»، فالهوية لا يكتمل تكوينها إلا على فهم الذات والتعبير عنها وحمايتها. والتوفيق بين الهوية الذاتية والهوية الثقافية الجماعية هو ما يمنح مبدأ الهوية توازنه ورسوخه. وكلمة «هوية» لا تعني فقط الانتماء القومي والإثني الجماعي، بل تعني أيضاً الموقع داخل المجتمع نفسه. وأزمة الهوية إنما تنجم كما يقول عالم الاجتماع كلود دوبار في كتابه الشهير «أزمة الهويات»، عن عدم استقرار أطر الحياة الاجتماعية، مثل العائلة والعمل وأشكال الانتماء الديني والسياسي. أما العالم الاجتماعي إريك إريكسون الذي كان سباقاً في التحدث عن «أزمة الهوية» في أربعينات القرن العشرين، فيرى أن هذه الأزمة تعبر عن مشكلة إنسان فقد الإحساس بالتماثل الشخصي والاستمرارية التاريخية. ليس زياد الدريس بعيداً من هذه المقولات، في مشروعه النقدي لمفهوم «الإقصاء» و»التصنيف الإقصائي». فهو يتوجه إلى الإنسان - الذات كما يتوجه إلى الجماعة، وفي نظره أن شروط مكافحة الحزبية الإقصائية تتمثل في القيم والمبادئ الآتية: العدالة والنزاهة والشجاعة واتساع الأفق ووعي الأولويات والبعد عن روح التشفي والاستعداء والبذاءة في محاورة الآخر... أما مكافحة الحزبية الوهمية فتقتضي برأيه الكتابة بحرية واتزان، وعدم الاستسلام للتخوين أو التخويف، والحفاظ على الاستقلالية النسبية في التفكير أو التعبير عن الرأي. يوضح زياد الدريس الالتباس بين المفهوم الغربي أو العالمي للحزبية والمفهوم الإقصائي الشائع عربياً. فالحزبية التي تعني الديمقراطية والتعددية هناك تحمل عربياً دلالات سلبية. ويرى أن الحزبية في الأنظمة الديمقراطية هي وسيلة للتعايش والتعبير عن أطياف المجتمع وتوجهاتهم بما تكفله المسؤولية الاجتماعية. أما في العالم العربي فالحزبية سبيل للتفرق والتنازع. ويشير إلى أن المقصود هنا بالحزبية أو «الحزبوية» العربية هي الحزبية التي تعني التعصب والأحادية والإقصائية، وليس الحزبية التعددية في مفهومها الديمقراطي الخالي من الشوائب، إن امكن هذا الخلو. والحزبية عربياً تملك معنيين، الأول هو التعصب لحزب أو تنظيم أو تيار أيديولوجي لا علاقة له في الغالب بأمر تسيير شؤون البلاد، والثاني هو الخوف من الأحزاب، الحقيقية والوهمية، ومحاربتها بذريعة عمالتها وخيانتها. وفي رأيه أن هذه «الفوبيا» من الأحزاب جعلت من الذين يحاربونها حزباً حقيقياً وملموساً أكثر من حقيقة الأحزاب التي يحاربونها، وهو ما يسميه «حزب مكافحة الحزبية». وقد انضم إلى هذا الحزب كما يقول الدريس إسلاميون وليبراليون وشيوعيون وعبثيون وعاطلون من العمل ومنتقمون... وفي خلاصة القول إن مكافحة الحزبية الإقصائية لا تكون في التكتل ضمن حزبية أخرى تحمل الأدواء نفسها والمساوئ نفسها. إنها المكافحة النزيهة وذات المنهجية العادلة لمواجهة الحزبية الإقصائية، هي المطلوبة والواجب تبنيها. في هذا السياق كان لا بد للكاتب من أن يتوقف عند حزب «الإخوان المسلمين» في مصر، فهؤلاء كما يرى إنما هم فئة من المسلمين ولا يحق لهم الادعاء بأنهم هم وحدهم الذين يملكون الحق المطلق في تمثيل الإسلام والمسلمين، ومن الواضح أن ملايين المسلمين لا يتوافقون مع طروحات «الإخوان» وتحركاتهم. لكنه لا يشجب حق «الإخوان» في أن يعتبروا تنظيمهم في مصر حزباً سياسياً يسترشد بالدين، ولكن ليس من حقهم اعتباره «هوية» دينية، فهذا يعني إقصاء كل من لا يتوافق معهم من ساحة الدين الواسعة. ويخلص قائلاً: «الإسلام دوماً، أضخم من أن يحتكره بعض المسلمين». يبدو كتاب زياد الدريس على رغم صغر حجمه حافلاً بأفكار وقضايا كثيرة وراهنة، ومعظمها مطروح اليوم على طاولة النقاش وبإلحاح. وإذا كان الكتاب يضم أساساً مجموعة مقالات فإن الكاتب نجح في جمعها وربطها بعضاً إلى بعض عبر خيط «مفهومي» داخلي، جاعلاً منها فصولاً صغيرة يكمل واحدها الآخر. وهي مقالات قائمة على التحليل والمعالجة والتأمل وبعيدة عن روح التعليق الصحافي اليومي والعابر. وقد أصاب المفكر رضوان السيد في وصفه الكتاب قائلاً: «كتاب زياد الدريس الصغير هذا عصي عن التصنيف مثل شخصه وشخصيته. فهو ينتقل بالقارئ من اختراق إلى اختراق، ومن إزعاج مبهج وجريء إلى آخر لا يقل إزعاجاً وجرأة. فهو ليس ليبرالياً ولا متشدداً ولا سلفياً ولا غير سلفي، ولا حزبياً ولا غير حزبي، ولا أبيض ولا أسود...إلى آخر الثنائيات الناقضة والمنقوضة. هل هذا هروب ؟ نعم، هروب إلى الحرية، وهي الحرية المسؤولة التي لا تحددها غير إنسانية الإنسان». زياد الدريس

مشاركة :