لا يتذكَّر كيف جاء إلى هذه الحياة، أو في أي بقاع الأرض وُلد تحديداً، إلا أن الصور الأولى التي تحتفظ بها ذاكرتُه لطفولته المبكرة، عبارةٌ عن صور باهتة لثلوج ناصعة البياض تكسو جميع الأماكن التي يَستطيع أن يصل إليها بصرُه لفترات طويلة من كل عام، ثلوج دفعته ووالدتَه دائماً للبقاء داخل البيت المُوحش، والاكتفاء بمراقبة الخارج من خلال زجاج النوافذ، خلال غياب والده الدائم، الأمر الذي كان يزيد من شعور والدته بالغربة. وبما أن المشاعر السلبية شديدة العدوى، فمن دون أن يدري وجد نفسه يغرق معها بقتامة الحاضر، ما دفعه لكُرْهِ البقاء في تلك بلاد المثلجة. وشعورها الدائم بالغربة كان يدفعها لأن تحكي له دائماً، بمناسبةٍ ومن دون مناسبة، عن البلاد البعيدة الرائعة التي جاءت منها برفقة والدِه، والتي تقع في الجزء الشرقي من الكرة الأرضية، في منطقة جغرافية كبيرة اسمُها الوطن العربي، فهي بلاد ماطِرة دافئة في أشهر المطر، ومشمسة حارَّةٌ في الأشهر الخمسة التي تتوسط العام، بلاد شديدة الجمال، أهلها طيبون، كرماء، شجعان لا يخافون، أذكياء بالفطرة، لا يقبَلون الذل والإهانة، أطفالها ليسوا كبقية الأطفال، ورجالها ليسوا كبقية الرجال، ونساؤها أيضاً لسْنَ كباقي النساء! هي لم تملَّ يوماً من ترديد تلك الحكايات وسرد تفاصيلها، وهو لم يملَّ من السماع، رغم حفظه لها عن ظهر قلب، ورغم تداخُلِ المشاعر في نفسه تجاه تلك البلاد، ما بين مزيج من الاستغراب والإعجاب وحب الفضول والخوف من المَجهول في الوقت ذاته، فإن نشأته على التأثُّر بها والميل الشديد إليها، جعلتها في نظره جنَّةَ الله في أرضه، وهو ما جعل جميع أحلامه وطموحاته تدور وتتمحور حولها، وحول حب العودة إليها. ومن أجل تلك البلاد التي هامَ حبّاً وتعلقاً بها، قرَّر أن يدرس تخصُّص الفيزياء النووية، لعشقه للفيزياء، ولطموحه بأن يُصبح رائداً في هذا المجال في بلاده التي يظنُّ أنها تنتظر منه الكثير، كمُغترب يعود بعد طول غياب. بعد وفاة والده لم تَستطع أمُّه البقاء في بلاد الثلج أكثر من ذلك، فآثرت الرحيل وحدها إلى بلاد الدفء والخير، وتركتْه وحده يقاسي غربته! سنوات عشر قضاها يَدرُس لياليَها، ويستيقظ قبل طلوع الشمس ليبحث ويعمل ويُدقِّق النتائج، سنوات عشر لم ينعم خلالها بنوم هانئ أو لقمة طريَّة، حياتُه طوالَ تلك السنوات كانت نسيجاً من المعاناة المُتواصِلة، كان يُمنّي نفسه ويَعِدُها بأن المستقبل الواعد الذي ينتظره في بلاده قد بات وشيكاً، فلا بأس من كثير من المعاناة التي سيَعقبها علوٌّ له ولبلاده، وحين حصل على درجة الدكتوراه لملَمَ حاجاته اليسيرة على عجَلٍ، وانطلق يحثُّ الخطى إلى المطار، يتحرق شوقاً ليعانق أمه وبلاده. وهبطت به الطائرة على ثرى الوطن الحبيب، كان اللقاء حارّاً فاضت فيه الدموع والأشواق، لم يصدِّق نفسه أنه حقّاً يتنفس شذى عطره، وتُعانق عيناه تضاريس جماله، وتُصافح أذناه شدْوَه الحبيب، كان كمن يُريد أن يروي ظمأه بسرعة بسبب شدة خوفه من نفاد الماء. مضت أيامه الأولى تعبق حبّاً وجمالاً، وتفيض رضاً وهدوءاً، ثم انطلق بعدها في رحلة البحث المضنية عن عمل، التي لم تقلَّ معاناة عن سنوات غربته الست والعشرين، كانت مراكز الأبحاث قِبلتَه الأولى، مراكز تَحمل اسماً لا يحمل ذات المسمى، ورغم ذلك أوصَدت جميعُها أبوابها دونه، انتقل إلى الجامعات يَطوف بها دون كلل أو ملل، فهو يحمل داخل جمجمته ما يُمكنه من أن يُحدث ثورةً علمية في هذا البلدِ المسكين، ولاقى فيها المصير ذاته الذي لاقاه في سابقتها. أخذ الملل القاتل يتسلل إلى نفسه، ويطرُق مشاعرَه بعنف؛ ليحلَّ محل الأحلام الوردية، لم يترك مؤسسة أو مكاناً يمكنه العمل فيه إلا وراجعه وترك فيه سيرته الذاتية التي أرفقها بطلبٍ للعمل، وبعد ما يقارب سنة كاملة من البطالة شعَر بنفسه خلالها كأنه خرقة قماش بالية لا قيمة لها مرميَّة على قارعة الطريق، رنَّ الهاتف يحمل له صدى صوتِ موظَّفة من وزارة التربية والتعليم العالي تطلب منه الحضور، احتضن نسخاً أصلية من أوراقه الثبوتية، وكل ما يشهد بكفاءته العلمية، وانطلق للموعد، وكانت المفاجأة التي حطمت جميعَ مراكبه على صخور الواقع. مبارك، لقد تم تعيينُك سكرتيراً في إحدى مدارس الريف في منطقة تبعد 80 كيلومتراً عن المدينة، ابذل جهدك واجتهد، فقد يتمُّ نقلك إلى منطقة أقرب بعد عدة سنوات، إن أثبتَّ جدارتك! مدَّ يده لتسلُّم مغلَّف مُغلَق، ثم استدار نحو الباب وقد فَقَدَ القدرة على الكلام تماماً، وكأن لسانه قد قُيِّد داخل فمه بقيود من حديد، أما قلبُه، فقد كان ينزف داخل صدره بصمت تحت الطعنة النَّجْلاء التي تلقَّاها، ويقطر مشاعر سوداء أسبغت على عينيه ستاراً ضبابيّاً قاتماً غطَّى على كل شيء في تلك البلاد. نام ليلته تلك بلا أحلام، وفي الصباح كان ينطلق إلى المطار يُعانق غلافاً ورقيّاً يضم في ثناياه أوراقه المهمة، واعتلى الهواء وحلَّق في سماءِ بلادٍ لفَظتْه كما تَلفِظ نوى الثمار ثم تدوسها بقدمك، دون أن تأبه لحقيقة أن الأجنة التي تنمو وتخضرُّ وتحمل الأزهارَ بديعة الجمال، وتطرح الثمارَ الحلوة اللذيذة، جميعُها مخزَّنة داخل هذه النوى الجافة، بلاد وُلد فيها والداه وأجداده، بلاد أدرَكَ على أرضها معنى الغربة الحقيقية. رحل عن تلك البلاد تتوق نفسه لبلاد الغربة التي شَعَرَ فيها بالأمان والاطمِئنان، بلاد شرَعت له أبوابها، واحتضنته، رغم أن لونها ليس من لونه، ودماءها لا تجري في عروقه. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :