ينطلق الكاتب محمد برادة في روايته «بعيداً من الضوضاء.. قريباً من السُكات» دار الآداب - بيروت 2014، ليرصد التحولات السياسية والاجتماعية التي حدثت في المملكة المغربية ما بعد الاستقلال، سعياً للكشف عن مأزق السؤال الدائر حول هوية الحياة في المغرب والهوس المتسارع حول الحرية على مستوى الخطاب السياسي والديني والاجتماعي، هذا الهوس يكاد يكون شاغلاً لفكر الأفراد والمؤسسات والمنظمات بل حتى السلطة نفسها بما أنها هي المناطة بإرساء هذه الحرية، وكذلك الجواب عن هذا السؤال، الذي شغل معظم شرائح المجتمع المغربي في السنوات الأخيرة على وجه التحديد. يبدأ الرحماني وهو المؤرخ الذي يستعد لتأليف كتاب عن تاريخ المغرب بعد الاستقلال من «الحماية الفرنسية» باختيار شخصية «الراجي» الشاب العاطل عن العمل بعد تخرجه من الجامعة وانسداد الحلم أمامه، وتكليفه بتجميع آراء المجتمع في ما يخص مستقبل المغرب، على أن هذا البحث سيكون مغايراً عن البحوث السابقة، ليكون بحثاً متجدداً ومحفزاً للتلقي والقراءة ورصد تاريخ المغرب على مدى سنوات بعيدة تربو على نصف قرن مضى على حد قول الرحماني في الرواية: «أنا لا أريد أن أكرر ما يكتبه بعض المؤرخين والصحافيين، وإنما أريد أن أطرق أبواب من لم يتكلموا بعد عن تلك الفترة الحافلة». على أن الراجي بمقدوره أن يكتب بحثاً يتصدى فيه لتاريخ المغرب عبر تلك الآراء وقد لا يكلفه ذلك جهداً، إلا أنه انجذب لكتابة هذا البحث على شكل رواية باختياره ثلاث شخصيات من النخبة، حتى يتمكن من رصد تاريخ المغرب بما فيه من نتوءات ومنعطفات ومنجزات واختزال، ذلك عبر شخصيات منتقاة تشكل حال الوعي والإدراك الذي وصل إليه المغرب، إذ اختار ثلاث شخصيات تستطيع أن تقدم الصورة المضيئة لبحثه، بل المرآة الحقيقية لذاك التاريخ الممتد، وهم: المحاميان توفيق الصادقي، وفالح الحمزاوي، والدكتورة النفسية نبيهة سمعان، على اعتبار أن هذه الشخصيات تنتمي لجيل الثلاثينات حتى بداية استقلال المغرب، وبالتالي سيعطي العمل إتقاناً ويكون أكثر صدقاً وأعمق من ناحية تاريخية. لا أريد - حقيقة - أن أفسر الرواية بقدر ما أبين حال الوعي التي تشكلت بعد الاستقلال وتطلع المجتمع إلى الحرية، التي بدورها ستتشكل على صيغة انتماء لا يمكن للمجتمع أن ينزاح عنه، على اعتبار أن الحرية هي المساعد في النهضة الثقافية والاجتماعية في بلد يتطلع بأن يكون حراً وتحكمه العدالة وتقوم السلطة بدورها التنموي تجاه كل طبقات المجتمع، فأن يكون الشعب متحرراً من قيود السلطة فليس ذلك بمعضلة، بل على العكس تماماً فتلك القيود على أفراد المجتمع هي قيود على حال الوعي الثقافي الذي وصل إليه المغرب وخصوصاً بعد الاستقلال. ومن هنا تأتي هذه الرواية التي كتبها محمد برادة متناسقة مع ميول مؤلفها، خصوصاً إذا ما عرفنا أن كاتبها كان قريباً من السلطة قبل أن يتفرغ إلى الكتابة الروائية والنقدية. إن نسق الرواية يتشكل عبر شخوصها الذين يقدمون كل بحسب موقعه الإجابة عن أسئلة تكاد تكون عالقة في الأذهان، بل محددة لمصائر الدولة والكشف عن هويتها المقبلة، على أن برادة لم يقدم الخطاب النقدي فحسب في روايته، لكنه تطرق لمفاهيم إنسانية ومفردات لغوية مغاربية، ووصلات غنائية كلها تصب في إصلاح الذائقة السياسية والسلطوية، وتبين - بما لا يدع مجالاً للشك - تعدد الأصوات المتفقة على الحرية والكشف عن مخبوءات الحياة المقبلة وتحولاتها السياسية والاجتماعية، من منطلق أن هذه الرواية هي فعل إنساني، يؤسس لتناغم الماضي بالحاضر وتنضوي تحت مظلة الذاكرة الثقافية عبر عوالم مشرقة يتمناها كل فرد كميزة تميزه عن بقية المجتمعات العربية. * كاتب سعودي.
مشاركة :