لم ينجح جيلنا -إلى اليوم- في كتابة أي وصف للدولة التي نريد أن تكون عليها بلادنا، بعد التخلص من الحكم العسكري، لا أقصد حالة انتقالية، ولكن أقصد شكلاً جديداً تماماً. غياب تلك الرؤية كفيل بأن ننتقل جيئة وذهاباً بين حاكم مدني "دمية"، ولو كان رئيساً لجهة قضائية، أو ممثلاً لحزب أو طائفة أو جماعة بعينها، حتى بعد انتخابات صورية أو حقيقية. كل بضعة أعوام، يأتي رجل "طرطور" جديد، ولا يتغير شيء أبداً. أكل الناس لحم الحمير، شرب ماء المجاري، السرطان والكبد الوبائي في كل منزل، ليست أسباباً كافية للتغيير، لا يصبح الظلم سبباً للتغيير، حتى تؤخذ أنفاس أغلب الناس، حتى ذلك لا يصبح سبباً لأن يطلب كل الناس التغيير، رأينا ذلك في سوريا مثلاً، فماذا يخبرنا التاريخ؟ بأميركا ظل العبيد عبيداً حتى بعد أن حاربوا في ثورة أميركا، وكانت الثورة حرباً ما بين الوطنيين وقوات الجيش البريطاني، ومن حالفهم، حتى بعد وصول الأخبار من إنجلترا لأميركا بعد ثلاثة أعوام من (1772) بأن أمر العبودية أمر غير "دستوري" وغير "إنساني" في إنجلترا. ما زال العبيد يحاربون مع أسيادهم في طرفي الثورة الأميركية مع وضد إنجلترا، حتى بعد أن وعدهم المحتل الحرية، كان ذلك على أساس أن "الثوار - العبيد" قد ينضمون للموالين لإنجلترا، ومن ثم يتم إضعاف الثورة كلها. قاتل العبيد مع المحتل، بحثاً عن الحرية! الظلم، ومن تربى على العبودية، فيما أفهم، لا يدافع أبداً عن الحرية، ولكن "التطلع" أو "الأمل"، ربما "الغيرة" أو حتى "المال" المنتظر عند نجاح المغامرة، الحرب، أو الثورة، يعد كل ذلك دافعاً طيباً للتغيير. لا يمكن لجيلنا أن ينتظر أن يتغير الحال من الحاكم العسكري المغفل الحالي، لآخر مثله، أو لواجهة مدنية للجيش كالدكتور فلان أو السياسي علان، تماماً كما هو الحاصل للجزائر. لا يمكن أن يكون منتهى أمانينا مجرد حاكم مدني، وخلاص، ثم تستمر أجيال أخرى في نفس النزاع و"العبودية"، ولن ينفع انتظار أن يفهم كل الناس؛ لأن مطالبهم وما يفهمون مختلفة تماماً عما ندعو إليه من "حرية" و"عدل". ربما، ينبغي على جيلنا أولاً، فيما يكافح أيضاً للحرية مطلقاً، وحرية جيل الثورة والاعتقال كما أطلق علينا في صحافة الغرب، أن يكتب وضوحاً في شكل الدولة التي نريدها، وما حدودها؟ مثلاً، لا يمكن القبول بحدود رسمها المحتل الإنجليزي، أو بالخطوط المستقيمة بعد تجزئة السودان، أو بالرضا بالأرض المغتصبة من الكيان الصهيوني من أرض مصر، أو بالأرض المهدرة في جزر البحر الأحمر للسعودية، أو حتى في أرض الحجاز التي كانت يوماً ما مصرية، أو في أرض مصر الغربية التي هي ضمن حدود ليبيا حالياً، ما هي الحدود؟ لا يمكن التسليم بأن الثورة لا تحمل فكرة العدل للمنطقة كلها، جربنا أن الخوف يأتي بممالك الإمارات وقطر والسعودية على رؤوسنا، مضافاً إليها السفيرة الأميركية، بكل إرث اياكس وعمليات الانقلابات في كل أركان الكوكب من فجر التاريخ السياسي الأميركي. كيف يمكن لتلك الدولة، دولتنا "التوسع" حدودياً وأيديولوجياً؟ ما هي أصلاً الأيديولوجيا التي نريدها؟ على أي حدود فكرية وأرضية ترسو تلك الدولة؟ أعرف أن ثمة أسئلة أفلاطونية في ذلك، ولكن صدقاً، لم يكن ثيودور هيرتزل ليكتب كتاباً يصف فيه الجمعية اليهودية ويختار فيه الأرض التي تقام عليها الدولة، أو يطرح بعض الاختيارات، لولا أن مثله أدرك أن بداية التنفيذ فكرة، وأن الأمر قد ينتظر رجلاً مثل دافيد بن جوريون، ليأخذ بعض الأوراق، ويصنع منها شعباً له لغة ماتت أساساً، وثقافة مسختها ثقافات أخرى كثيرة، ثم يأتي ذلك الكيان ويتمدد يومياً على أرضنا، وتقدم له فروض الطاعة والتنسيق الاستراتيجي والعسكري من الرياض وأبوظبي للقاهرة جيئة وذهابا. ثمة رجل مثل أتاتورك، أجاد ارتداء الزي الأوروبي والكرافتات، أيام كان أهله يرتدون العمائم، ارتدى هو حلل الأوروبيين، وغيَّر حروف قوم بأكملهم، من كان ليصدق ذلك؟ هل تصدق لو أخبرتك أننا نحيي الهيروغليفي وزي الفراعنة في مصر كما فعل اليهود؟ أو نرتدي مثل الأيرلنديين مثلاً، ونغير زي المصريين كما فعل أتاتورك بالأتراك؟! ولكنه حدث، هذا واقع تاريخي، الجنون يصنع التاريخ أحياناً. الآن، لدينا عدد من الأفكار الانتقالية، كحصر مفاصل الدولة، وإعداد المؤهلين لها، كحصرهم بطرق خزعبلية تكنولوجية، أو حتى طرق متخلفة بدائية إخوانية، ولكن كل تلك الأفكار تبني على الحفاظ على ما هو قائم، على حاله، والمرور به لحالة من حالات التحول، ولكن الثورة لا تتطلب ذلك أصلاً. عملية التغيير، من أشخاص مفصليين (كأربعة آلاف عسكري يحتلون مفاصل الدولة، من شركات قابضة، ومحافظين، ورجال أعمال متعاونين في المعونة العسكرية والمدنية، ووزراء... إلخ)، عملية التغيير "المفاجئ" تلك، هي حركة تحرر، لا ثورة؛ لأنها تحافظ على الموروث بشكل ما. ما أذكره، هنا حاجتنا لطرح -ربما- نظام مختلف من أساسه، حتى إذا بلغ الأمر مبلغه من العبيد، وبلغت الفوضى مكانها، كان هناك من "الأحلام" ما يمكن تطبيقه بشكل مباشر، ولو لم يكن بينه وبين الحاضر أي صلة تذكر؛ لأن التاريخ كذلك؛ لأنه ربما لا حاجة بنا أن نصل لتلك "الفوضى" قبل الاستمرار مرة أخرى بنفس قواعد البناء المهترئة. أعرف أن العديد أفنوا وقتهم وأعمارهم في الأعوام الأخيرة في دراسة العلاقات المدنية - العسكرية، أو في دراسة شكل الدولة (المصرية الحالية) وهيكلها الاسباجتي المعجون، كل ذلك أملاً في أي حل. أعرف الكثير من المخلصين الذين أرادوا حلاً، ومضوا للبحث عنه، ولو وحدهم، ولكن أرى أن ما ينبغي على جيلنا فعلاً النظر فيه اليوم: هو شكل الدولة القادم من أساسه، وطرح شكل ربما لا يمت بصلة أساساً لأي شيء متعارف عليه، ربما لا... ربما استنساخ لنموذج واحد ناجح مناسب لنا. أظن، نحتاج أن تُفنى الأعمار في الأعوام التالية، في طرح ذلك الشكل، إذ لم تقم الثورة البلشفية بروسيا مثلا ًعلى يد لينين بدون أفكار كارل ماركس. التاريخ كذلك، أحدهم كان يملك الفكرة ودونها بشكل واضح، وكتب لتلك الفكرة الحياة على يد آخر كلينين وبعده ستالين، تماماً كثيودور هيرتزل وصاحبه بن جوريون، الأول الفكرة، والآخر عشرات الأعوام من التنفيذ المتواصل. احتاج فلاحو روسيا أن يذكرهم أحدهم أن الأرض التي هم عليها لهم، ملكية عامة، واحتاج العبيد بأميركا أن يعرفوا أنهم ليسوا بأقل آدمية من غيرهم، واحتاج اليهود فكرة جمعية تؤسس لدولة، واحتاج أهل الصين ماو ليكتب الكتاب الأحمر ينظر فيه لتحريرهم من الاحتلال، الأمر كله في البداية "فكرة". وجيلنا لا يملك إلى اليوم "فكرة" عن ذلك الشكل الجديد الذي نريده، مثل أوروبا، أم مثل أميركا؟ رأسمالي؟ اشتراكي؟ مختلط؟ مثل الصين أم أميركا؟ أم شيء آخر؟ لو وسعني التلخيص: بالتوازي مع عمل العاملين على التخطيط للإحلال والتبديل للنظام القائم، أو طلب الحرية بمكافحة الظلم، أو إدارة التغيير في مراحل انتقالية بشكل إصلاحي أو ثوري - مرحلي، ربما يلزم على بعضنا طرح شكل آخر للدولة، غير عابئ بكل المحددات الحالية من أي نظام قائم في الدولة أساساً. ربما يأتي يوم ليس ببعيد، ورجل لا نعرفه ونحبه ويأتي بشكل مُقترح، يتبناه رجل آخر لا نعرفه ونحبه وربما ولد للتو، ليغير كل ذلك، فنسعد، وأولادنا وأحفادنا.. في أعمارنا. "التغيير عملية وليس حدثاً"، أو كما قالت هيلاري كلينتون، نجانا الله من شرورها، سيحتاج ذلك التغيير أجيالاً، نحن هنا لمهمة، ستنتهي بنهاية أعمارنا، وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم. --- مصادر متفرقة: الثورة الأميركية: ، ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :