يطغى الجدل في الأردن، في ما خصّ تعديل المناهج المدرسية، على ما سواه. حتى اتفاقية شراء الغاز من إسرائيل التي وقعتها الحكومة الأردنية في غياب البرلمان، لا تحظى بسخونة الاهتمام ذاته، على رغم أنّ الغاز الذي سيدخل بيوت الأردنيين الفلسطينيّ الأصول والمنابت، آتٍ من كيان اغتصب الأرض وشرّد أهلها، ودمّر الجغرافيا وأفسد حياة الملايين. وظنّ كثرٌ أنّ اغتيال الكاتب الأردني ناهض حتّر قد يُعيد ترتيب الأولويات لمصلحة خفض صوت الغلوّ، وإشاعة المشتركات التي تحفظ السلم الأهلي، وتحول دون إذكاء نار الخلاف والتزمت التي أودت في محصلتها النهائية بحتّر، لكنّ ذلك لم يحدث، بل ما أفرزته الاحتجاجات ضد تعديل المناهج وصل أبعد من حدود التهديد التي أطلقتها نقابة المعلمين بتعطيل الدراسة، بل إلى استعادة المعزوفة المشروخة إياها بأن «قطعان العلمانيين» تريد إفساد عقيدة الطلاب في المدارس. وما زاد من وتيرة هذه الاحتجاجات التي بلغت أقصى أمدائها في الأيام الأخيرة، أنّ جُلّ المحتجين من المتدينين المؤازرين للحركة الإسلامية التي حظيت بحضور لا بأس به في الانتخابات البرلمانية الأخيرة. أضف إلى ذلك، وهذا أمر يندرج في إطار المسكوت عنه، أنّ اغتيال حتّر، لاتهامه ظلماً بالإساءة إلى الذات الإلهية، عزّز جموح الاحتجاجات وقوّى شوكتها، ما يدفع إلى الاعتقاد بأنّ العقل الباطني للمتحجين يربط بين تعديل المناهج والتجرؤ على المنظومة الدينيّة! وفي غمرة هذا الالتباس، تختلط الأوراق، ويعلو من جديد، بل يواصل علّوَه، صوتُ التشدّد، مترافقاً مع خشية الأهالي وجموع الأردنيين من الربط بين تغيير المناهج وتفسّخ المنظومة العقدية، خصوصاً أنّ ذلك يترافق مع ارتفاع منسوب التشدّد في مجتمع تنعى نخبه الزمن الجميل، حين كانت العاصمة عمّان تختال بتعدديتها في الملبس والمسلك وترتاد المسارح ودور السينما، ويصلي الناس في المساجد والكنائس محبّة في الله، ويمارسون حرياتهم من دون خشية أو توتر. ويغيب عن أذهان المحتجين والمؤيدين لتغيير المناهج، على حد سواء، أن تعديل الكتب لا يفضي بالضرورة إلى تعديل العقول، وأن المدخلات العلمية التي تحفّز التفكير النقدي، لا تعني بالضرورة الحصول على مخرجات بالمقدار ذاته، ما دام «المنهج الخفي» المتمثل في المدرّس متخندقاً خلف متاريس الممانعة، وما دام الاعتقاد راسخاً بأن الهدف من تعديل المناهج ليس تنقيتها من الشوائب والعثرات ووضعها على سكة الحداثة، بل إن الأمر برمته «مؤامرة على الدين» كما يزعم هواة الوهم! فلو أنّ وزارة التربية والتعليم التي يتعرّض وزيرها لوابل من التهديدات والإساءات والاتهامات، جلبت المناهج من أرقى المدارس في العالم وأكثرها رقياً وتطوراً، ولو أن آينشتاين نفسه ساهم في وضعها، لرأيت النتيجة ذاتها، فهذا المنهاج يحتاج إلى مَن يدرّسه، وإذا كان المدرّس يحمل لافتة مكتوباً عليها «أبناؤنا أمانة في أعناقنا. لا لتشويه المناهج» ويرفع آخر «لا لمناهج التطبيع» وتحمل مدرّسة جلبت طالباتها معها «لن ندرّس علمانيتكم»، ثم يشرعون بعد ذلك في طقس وثني، فيحرقون المناهج المعدّلة... فهذا كله يكوّن صورة سوادوية كريهة عن مصير العملية التعليمية برمتها. لم يكن قاتل ناهض حتّر منتسباً في شكل حركيّ إلى تنظيم «داعش»، لكنه كان خطيب مسجد تابع لوزارة الأوقاف، وقبل أن يتوجه لارتكاب جريمته، من مكان عمله مهندساً في وزارة التربية والتعليم، مشى على قدميه نحو قصر العدل الذي لا يبعد كثيراً من الوزارة، وتربّص بالضحية وأفرغ الرصاص بها، «انتقاماً لله ولدينه وللعقيدة التي يريد أن يفسدها العلمانيون». فما الذي يميّز هذه الفعلة، وسواها، عما يرتكبه «داعش»؟ أفليس إحراق الكتب معادلاً موضوعياً لإحراق أصحابها وإشعال النار بأفكارهم، كمقدمة لإشعالها في أبدانهم. إنها «الدعشنة»! * كاتب وأكاديمي أردني
مشاركة :