بين ضيق الجهل ورحابة الفكر

  • 9/30/2021
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

خلق الله الإنسان وأكرمه بعقل يقوده في رحلة مضنية في بحار المؤلفات، وبين عواصف الجهل وأمواج الغفلة وهوى النفس؛ ليوصله إلى شواطئ المعرفة الحقة ومرسى الفكر الرشيد، ويجعل منه إنسانا أكثر اتساقاً مع ذاته، بما يحمل من أفكار مستنيرة ومخزون معرفي يمكنه من إدراك حقيقة أمور الحياة، مستوعباً قضاياها المتعددة بطريقة واعية وصحيحة، ويعالج مشكلاته بصورة عقلانية، ويحكم في مختلف القضايا وفق معايير منهجية بمنطلقات ثابتة، ومضامين مختلفة وباستدلال صائب، ورؤية فاحصة وناقدة يتحرى بميزان العقل والمنطق والتروي، يرفض ربط نفسه بفكرة معينة أو اتجاه يقيد به عقله، ولا يكون تابعاً ومنساقاً لغيره ودون أن يتيح لهم فرصة السيطرة عليه. فالتبعية وضيق الأفق والتفكير بطريقة أحادية البعد ينم عن مرجعية فكرية قوامها رخو ومناعتها الذهنية عليلة تجعله ينساق وراء الأفكار الباطلة والانطباعات المغلوطة، ينظر بمنظور ضيق رغم شساعة العالم، منغلق على عاداته، ومتمسك بعالمه، يعيش في ركود قيمي تعتريه الحيرة والدهشة، غارق في وحل الجهل وظلام التخلف، فاقد التبصر والتمعن العقلاني لسكونه الفكري وتكلسه العقلي. إن الجهل المعرفي يهدم أسس الفكر الإنساني والاستناري ويزيح رزانة التعقل، ويخلط بين العلم والخرافة يجعله في خصومة مع العلم والطرح المنهجي المبني على الوعي المستنير مدخلاً المجتمعات في خطر، ومهدداً لاستقرار كينونتها لكونه يؤطر لفكر مترهل مضطرب ومنطق قاصر، وإدراك معتل وتصور أناني ليشكل ثقافة خاوية الجوهر هزيلة المضمون تبطل منفعة العقل وتسطح الفهم، وتغذي منطق الجهل ثقافة فاقدة لغاياتها ومقاصدها، مليئة بمعتقدات ومفاهيم مغلوطة وتصورات وخرافات معطوبة لا يمكن أن توصل سوى إلى واقع من الانغلاق والنزعة الاستئصالية، مكرسة لمنطق الغلبة والانتصار، موفرة بذلك غطاء للتنافر والاختلاف والإفناء بين أفرادها، ومفرزة للتحيزات والصراعات الخافتة، وربما الدامية يدفعون المختلفون فيها ثمن اختلافهم لعدم قدرتهم على إدارة الخلاف والتنوع. وحتى تخرج المجتمعات من ضيق الجهل إلى رحابة الفكر لابد من ثورة فكرية على قوى الجهل وظلام التخلف وبراثن الرتابة، والانعتاق من سطوة الأفكار الضحلة والرجعية.. فكر ذو رؤية تنويرية لا تضيق واسعاً ولا تحجر ليناً تأخذ بنا نحو بحور التجديد والمعرفة واليقين، فكر يرتكز على الحجة والبرهان، ويمزج بين الأصالة والعصرنة، يسعى للتطوير والابتكار، مستنهضاً الأيادي لتصنع والعقول لتبدع لبناء نهضة حقيقية ومتفهم لطبيعة الاختلافات البشرية وتنوع ثقافاتها وأفكارها وتعدد دياناتها. فكر لا كفاية ولا سقف له مادامت الآراء تتبدل والقناعات تتغير، يحرر عقول أرهقها كثرة الغسيل ويغلق كل باب للصراعات، ويصنع من الاختلافات نقاط التقاء، ويحصن البشرية من الانحلال والتطرف وثقافة الموت والكراهية الممسوسة بكل اتجاه، ويكسبها مناعة ضد التغرير بها، والاستجابة لكل صوت يريد استقطابها لتتفادى الانحدار لطريق الهاوية وغياهب الأحقاد. فكر سديد يهدف لمجتمعات ناضجة ومتماسكة تنطلق نحو آفاق معرفية أكثر رحابة وحضارة إنسانية أوسع، امتداداً وأقدر على مواكبة واستيعاب متغيرات الحياة ليتحقق ما نطمح له ونرتضي.

مشاركة :