محمد حماد يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل (الممتحنة:1) نزلت هذه الآية الكريمة في حاطب بن أبي بلتعة، ولها قصة بدأت مع قدوم سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف من مكة إلى المدينة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتجهز لفتح مكة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسلمة جئت؟ قالت: لا. قال: أمهاجرة جئت؟ قالت: لا. قال: فما جاء بك؟ قالت: كنتم الأهل والعشيرة والموالي وقد ذهبت موالي وقد احتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني. فقال لها: وأين أنت من شبان مكة؟ وكانت مغنية نائحة. قالت: ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر. فحث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني عبد المطلب وبني المطلب فأعطوها نفقة وكسوها وحملوها، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة - حليف بني أسد بن عبد العزى - فكتب معها إلى أهل مكة، وأعطاها عشرة دنانير، وكساها برداً على أن توصل الكتاب إلى أهل مكة، وكتب في الكتاب: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة.. إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريدكم فخذوا حذركم. كشف المستور خرجت سارة، ونزل جبريل فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بما فعل حاطب فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليّاً وعماراً والزبير وطلحة والمقداد بن الأسود وأبا مرثد فرساناً، وقال لهم: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين فخذوه منها، وخلوا سبيلها، وإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها. فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان الذي حدده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا لها: أين الكتاب؟ فحلفت بالله ما معها كتاب، ففتشوا متاعها فلم يجدوا معها كتاباً، فهموا بالرجوع فقال علي رضي الله عنه: والله ما كذبنا، ولا كذب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسل سيفه فقال: أخرجي الكتاب وإلا لأجردنك ولأضربن عنقك، فلما رأت الجد أخرجته من ذؤابتها، وكانت قد خبأته في شعرها، فخلوا سبيلها ولم يتعرضوا لها، ولا لما معها، ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حاطب فأتاه، فقال: هل تعرف الكتاب؟ قال: نعم. قال: فما حملك على ما صنعت؟. فقال: يا رسول الله والله ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، لكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته وكنت غريباً فيهم وكان أهلي بين ظهرانيهم فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يداً وقد علمت أن الله ينزل بهم بأسه وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً فصدقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعذره. فقام عمر بن الخطاب فقال: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، فأنزل الله - عز وجل - في شأن حاطب الآيات الأربع الأولى من سورة الممتحنة: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادًا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل. إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون. لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير. قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدًا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير. الفارس السفير كان حاطب بن أبى بلتعة أحد فرسان قريش في الجاهلية ومن شعرائها، وكان من أشد الرماة في المعارك، فرميته مسددة، وسهمه لا يخطئ، وكانت لديه تجارة درت عليه المال الكثير، وهو فوق ذلك لماح، كما أنه سفير الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكانت مهمة السفارة في صدر الإسلام شاقة ومرهقة وكانت تعرض صاحبها للقتل والتنكيل وكان من اختصاصاتها نشر الدعوة الإسلامية، وتبليغ الإنذار قبل بدء القتال وتسوية القضايا المتعلقة بالقتال ووضع الهدنة أو الصلح وتبادل الأسرى بعد دفع ديتهم، وقد أرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتاب إلى المقوقس صاحب الإسكندرية فقام بسفارته خير قيام، وبهر المقوقس ورجاله برجاحة عقله وقوة حجته، وكان ذلك في سنة ست من الهجرة، فبعد رجوع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية، بعث حاطب بن أبي بلتعة بكتاب إلى المقوقس صاحب الإسكندرية، فمضى بكتاب رسول الله حتى انتهى إلى الإسكندرية، فوجد المقوقس في مجلس يشرف على البحر، فركب البحر حتى حاذى مجلس المقوقس، فأشار إليه بالكتاب، فأمر المقوقس بأخذ الكتاب وإيصال حامله إليه، ولما مثل بين يدي المقوقس، قال لحاطب: ما يمنع محمداً إن كان نبياً أن يدعو عليّ فيهلكني؟ فقال حاطب: ما منع عيسى بن مريم أن يدعو على من أبى عليه أن يفعل به كذا وكذا. فوجم المقوقس ساعة، ثم استعادها فأعادها حاطب عليه، فسكت. فقال له حاطب: إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى فانتقم الله به ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك ولا يعتبر غيرك بك، وإن لك ديناً لن تدعه إلا لما هو خير منه وهو الإسلام الكافي به الله فقد ما سواه، وما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، ولسنا ننهاك عن الإيمان بالمسيح لكنا نأمرك به، وتدبر المقوقس جيداً ما سمع، ثم تدبر الكتاب الذي أرسله النبي مرة أخرى، وقرر أن يرسل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتاب وقرأ في كتاب النبي: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى المقوقس، عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (آل عمران: 64). هدايا المقوقس تأثر المقوقس بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتأثر بمنطق حاطب بن أبي بلتعة الحكيم، فأمر بوضع كتاب النبي صلى الله عليه وسلم في حق من عاج وختم عليه، واستدعى كاتباً يكتب العربية فأملى عليه ما يأتي: لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد، فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبياً قد بقي، وكنت أظن أنه يخرج من الشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت إليك بغلة لتركبها والسلام. وأما الجاريتان فهما مارية القبطية، التي تزوجها الرسول - صلى الله عليه وسلم - والثانية وهبها - صلى الله عليه وسلم - لشاعر الإسلام حسان بن ثابت، رضى الله عنه. مات الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتولى الخلافة أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - فبعث بحاطب مرة أخرى إلى المقوقس، بعثه ليجدد الدعوة إلى الإسلام، ويدعوهم إلى المسالمة، ونجح حاطب مرة أخرى في سفارته، وظل أهل مصر على العهد حتى فتحها عمرو بن العاص رضي الله عنه في خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ومات حاطب في عهد خلافة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وله من العمر خمس وستون.
مشاركة :