بالرغم من أن العديد من الفنانين اللبنانيين تناولوا الغيوم والسحب في لوحاتهم، غير أنهم ربما لم يقوموا أو لم ينجحوا في تصوير خصوصية أو شخصية غيوم موسمية محددة. العربميموزا العراوي [نُشرفي2016/10/14، العدد: 10424، ص(17)] بالرغم من التحولات المناخية التي تطال كل العالم، يبقى الخريف في مدينة بيروت من أجمل الفصول، لأنه يشبهها تماما في تململها وفي توترها الذي يهدأ حينا ويشتد حينا آخر. أجمل ما في هذا الفصل، وبلا منازع، غيماته المُتقلبة التي لا تعرف على أي جانب من السماء تستكين، غيوم لوحتّها الشمس تارة واحتوتها تارة أخرى، حائرة ومبللة بأحلام المطر، وهي لم تزل مُشبعة برطوبة صيف لا هو من ماء ولا من نار، بل من الاثنين معا. أما أكثر الأعمال الفنية أهمية ربما هي التي لا تصورها كجزء من مشهد طبيعي أو مديني عام، بل تلك التي تجسد عدم استقرارها كعنصر أساسي من تكوينها وصيرورتها الشكلية والضمنية. أذكر من تلك الأعمال ما أنجزه بعض عمالقة الفن التشكيلي الهولندي عبر إبداعهم للوحات تقبض على جوّ المدينة التي عاشوا فيها وأحبوها من خلال رسم تشكلات الغيوم وألوانها. أذكر بشكل خاص الفنان جوهانس فيرمير في لوحته المُسماة بـ”مشهد من مدينة ديلف”، حيث قد تشكل الغيوم ودينامكية اتصالها مع المشهد المديني عامل الاختلاف الأقوى بينها وبين أي مدينة في لوحة أخرى. أنجز الفنان اللوحة سنة 1661، ولكنها بحسب “شهود عيان”، لم تزل تمثل المدينة إياها بالرغم من تغير معالمها المدينية تغيرا شبه كلي. بالرغم من أن العديد من الفنانين اللبنانيين تناولوا الغيوم والسحب في لوحاتهم، غير أنهم ربما لم يقوموا أو لم ينجحوا في تصوير خصوصية أو ”شخصية” غيوم موسمية محددة، ألا وهي الغيوم الخريفية-البيروتية. ومن يعيش في بيروت يعلم تماما بأن معظم تلك الغيوم تعبر السماء منفردة، وغير متصلة بغيوم أخرى، تسير عابقة ببياضها وتكدرها حتى تغيب عن الرؤية أو إلى أن تتلاشى دفعة واحدة ربما من سرعة الضجر. هكذا غيوم نزقة ومنفردة وجدتها في تجهيز فنيّ للفنان الهولندي الشاب برندناوت سميلدي تحت عنوان “نيمبوس”، شكّل الفنان عالمه “السُحبيّ” بصبر وبفنية عالية داخل غرف شبه خالية كأروقة المتاحف، استخدم في استيلاد غيومه المنفردة والعابرة لفضاء الأماكن المغلقة، تقنية بث البخار ونشر الضوء بهندسة بصرية دقيقة. غيوم غلبها البياض تحضر فجأة، تسير في فضاء الغرفة بصمت، ثم تتلاشى وكأنها لم تكن، يبقى ظهورها الذي لا يتجاوز 10 ثوان موثقا من خلال استخدام كاميرا تصوير خصصت لرصد ظهورها الهشّ وبالغ الشعرية، غير أن “صانع الغيوم” يبقى غير قادر على التحكم تماما بشكل تكوّن الغيمة أو بمدى بقائها أو اتجاه مسارها، وذلك بسبب تفاوت درجة حرارة الغرف ومرور أدنى التيارات الهوائية في فضائها، لا سيما أنها غرف مفتوحة للزائرين العابرين بينها، من تحتها أو خلالها. يقول الفنان عن عمله التجهيزي هذا “أحب فكرة عدم دوام منحوتاتي السديمية، لن أملك منها إلاّ صورها، أراها بين ضفاف العالم الملموس والآخر، المُتخايل، للحظات تشعر بأنك تغوص في عوالم تلك الغيوم أو أنك قادر على الإمساك بها، ولكن لا، لا يمكنك ذلك أبدا، لأنها ما تلبث أن تنهار أو تتلاشى لحظة توهمك بأنك وبشكل ما، وصلت إليها”. بين غيوم بيروت الخريفية العابرة بصمت والصانع الهولندي لغيوم تمر سهوا من أمامه ومن وراء عينيه، تحضر بقوة كلمات للشاعر أنسي الحاج: غيوم، يا غيوم علميني فرح الزوال! لما تقولي إننا غريبان لأنك تعرفين كم لنا توائم في كل من يذهب وراء عينيه. ناقدة من لبنان ميموزا العراوي :: مقالات أخرى لـ ميموزا العراوي وراء عينيه , 2016/10/14 محمد جحا يرسم العلاقة بين الإنسان والأرض, 2016/10/14 الأشياء العادية, 2016/10/07 تشكيلي إيراني يرسم أشياءه البسيطة بشعرية متوترة, 2016/10/07 شروق أمين ترصد بألوانها عالما لا حدود لجنونه, 2016/09/30 أرشيف الكاتب
مشاركة :