لوحات تخاطب العين ولا تصل إلى القلب قدمت صالة مارك هاشم في بيروت المهندس اللبناني غازي باكر في معرض فني أول له تحت عنوان الآفات، والحسنات، والألوان، عنوان لافت يضع الألوان في موقع تجاذب ونفوذ يستحيل من دونه النفاذ إلى ما أراد الفنان التعبير عنه. العربميموزا العراوي [نُشرفي2016/11/25، العدد: 10466، ص(17)] حس فكاهي رغم الوجع بيروت – 26 لوحة هي محصلة المعرض الفني الأول للمهندس اللبناني غازي باكر والمعنون بـ”الآفات، والحسنات، والألوان”، والذي تعرضه حاليا صالة “مارك هاشم” البيروتية. أعمال مشغولة بمادة الأكريليك تؤكد على أثر الهندسة المعمارية والجانب الصارم منها على منطق الفنان البصري حتى وإن جاءت، أي اللوحات، تشكيلية تعجّ بالألوان. لوحات لا تخرج عن العقلانية المُطبقة على مُجمل أطرافها ولو للحظة واحدة، حتى وهي تريد أن تتأجج ولا تفلح تماما في ذلك، كما في لوحة وحيدة في المعرض تحمل عنوان “سفينة على الكتفين”. توازن مرعب أكثر ما يلفت في معرض الفنان هو قدرته على إقامة التوازن بين ما يُمكن تسميته بالآفات المعاصرة وقبوله لها كجزء لا يتجزأ من منظومة الحاضر، قد لا نبالغ في وصف لوحاته بأنها احتفاء بالآفات المعاصرة أكثر منها احتفالا بحسناتها. احتفاء لا “إحراج” فيه، إن صحّ التعبير، يُبهرجه الفنان ويلونه ويوضح معالمه حتى وهو في عزّ ابتغائه للترميز ووميض الإشارة إلى أشياء هذا العالم، وما تحمله من معان فجّة وواقعية. لا قوة الشعور في لوحاته، بل برودة العبور على مرافق الأمور، وكأنه غير معنيّ بها تماما إلاّ لناحية عيشه فيها دون تورطه فيها، فهو يعمد إلى صقل مظاهر الواقع بحرفية وحس تركيبي عال وبنظرة صافية لا لبس فيها ولا مكان للعاطفة أن تخربط تنظيمها، ربما هنا تماما تكمن ميزة غازي بكار الأساسية: القدرة على بناء لوحة جذابة تخاطب العين ولا تصل إلى القلب. المقصود بالترميز، الذي يبدو أن الفنان أراد استخدامه كجسر عبور إلى المعنى، ظاهر في لوحات كاللوحة التي تحمل عنوان “شراهة”، حيث يقيم شخص غليظ الجثة توازنه على قدم واحدة، بينما تقوم مجموعة بالونات ملونة وصغيرة بالإمساك به ومساعدته على الارتفاع عن الأرض، لوحة لا تخلو، كما غيرها من اللوحات المعروضة، من حس الفكاهة. يُلاحظ في هذه اللوحة، وفي رسم الفنان لهذا الشخص المُكتنز جدا تأثره المباشر وربما شبه الحرفي بعمل نحتي للفنان الصيني مو بويان، حيث يبرع هذا الأخير في الارتقاء إلى مبنى عصري دون أي مشقّة، بل ببهلوانية لافتة. يدفع الفنان غازي باكر زائر لوحاته تلك إلى أن يعيد النظر ببيئته المعاصرة والتأمل بما يمكن إعادة وضعه تحت خانة الحسنات من آفات اجتماعية ونفسية وسياسية واقتصادية هي “تحصيل حاصل”، لا بد منه ولا يمكن الإفلات منه في عصرنا هذا. في هذا السياق سيجد الناظر إلى عموم لوحاته أنه سيكون خارج زمنه الحالي ومنفي إلى هامش التحولات المتسارعة، إن هو لم يقبل بتلك الآفات على أنها حسنات، أو على الأقل يقبلها كآفات مُخففة ومغفور لها. نذكر على سبيل المثال اللوحات التي تحمل هذه العناوين “جشع”، “شهوة”، “فوضى”، “هل تعرفني؟” و”مُباع”، فحتى خيال الحب، لا ينجو من هذه المعالجة عن بعد و تروّ لما يمكن أن تأخذنا إليه فكرة الحب، الحب في الزمن المعاصر. الألوان هي ذاتها في جميع لوحات المعرض، ألوان صاخبة وواضحة تتعب العين أحيانا وتذكر بفن "البوب آرت" دون أن تكونه خطاب اللون المفارقة الكبرى تكمن في أن الفنان عمد إلى تقسيم “الكتالوج” المميز الذي يضم لوحاته المعروضة إلى ثلاثة أقسام وفقا للأفكار التي تطرق إليها، أي “الآفات والحسنات والألوان”، سينتبه الناظر إلى مجموعاته الثلاث تلك أن سمة “الحسنات” تنسحب على الآفات كلها والعكس بالعكس، من تلك الأعمال نذكر “خلال الليل”، و”المنارة” التي عين شعلتها هي قنينة “بيبسي” تسطع تحت ظل اصطناعي لغيوم بلاستيكية اللون والشكل، يمكن لها أن تتكسر لكثرة الجمود الذي توحي به، ومن ضمن هذه المجموعة نذكر أيضا لوحة “يونس والحوت” ولوحة “نوح”. إدخال الفكاهيّ إلى أعمال تحمل عناوين لها ثقل روحي أو قيم عاطفية عالية، كلوحة “يونس والحوت” على سبيل المثال، ربما أوقع الالتباس في نفس المُشاهد، أو ساهم في تبخيس تلك المقامات أو القيم في عالم تداخلت فيه المعاني حتى الانصهار فالتلاشي التام. اكتسبت تلك القيم أو المقامات بسبب ذلك مذاقا لا نكهة له، واصطبغت بمعنى لا خصوصية له، فتحللت كما يتحلل ملح البحر.. في البحر. كذلك الأمر بالنسبة إلى فقرة “ألوان”، فهي فقرة تمتد إلى المجموعتين الأخريين من الأعمال، الألوان هي ذاتها في جميع لوحات المعرض، ألوان صاخبة وواضحة تتعب العين أحيانا وتذكر بفن “البوب آرت” دون أن تكونه. نذكر من هذه الأعمال تلك التي تحمل هذه العناوين” أزرق”، و”أحمر”، و”أصفر”، و”أخضر”، في هذه اللوحات يرسم الفنان وجوها مُنفرة بعض الشيء تقبض على معنى لون من الألوان من أذنه لتدفعه غصبا عنه نحو تأويل واحد وضيق لمعنى واحد. ومن هذه المجموعة نذكر اللوحات التي تحمل هذه العناوين “روتكو 3” و”روتكو 4” طبعا، في الإشارة إلى الفنان روتكو المُتميز بلوحاته الحسية والروحانية في الآن ذاته، غير أن الفنان يقيم تأويله الخاص لعمل الفنان روتكو، زرع في قلب اللوحتين اللتين تحملان اسم روتكو كائنا لا بد أن يكون بشريا: مُهرجا ومضحوكا عليه في الآن ذاته. ثقة كبيرة تحرك ريشة غازي باكر، وتنم عن شخصيته القوية التي تنعكس في عدم اكتراثه بأي رتابة قد تُبهت من قيمة لوحاته الفنية. يُلاحظ أنه بدلا من أن تكون اللوحات التي تعتمد ألوانا متداخلة بعض الشيء وأقرب إلى عالم الفن التشكيلي هي اللوحات الأهم في المعرض، تظهر اللوحات التي يشتد فيها حضور الألوان المُتكررة والمُستعادة في أشكال محددة ومتشابهة هي الأهم. يقول الفنان حول ذلك إن تلك اللوحات هي “التي صممتها جيدا في خيالي وعلى قماش اللوحة قبل أن أقوم بتنفيذها”. في مجمل أعمال الفنان: اللون هو الضحية الأولى والجلاد الأكبر، منه المنطلق وإليه العودة.. فالفناء. :: اقرأ أيضاً الكاتبة العمانية ليلى البلوشي تضيء القصص بكائنات الهامش الكتابة الشعرية مرجل يغلي لا غطاء له ولا يتلاشى بُخاره الذات والتاريخ في الملتقى العربي الأول للرواية بالمغرب أركون الذي أفصح عما سكت عنه الآخرون
مشاركة :