كنيسة الثالوث المقدس على إحدى قمم جبال كازبغي أرثوذكسية حتى الصميم.. متسامحة بلا حدود.. لا شرقية ولا غربية تبيليسي (جورجيا): معتصم الفلو لا يكاد المرء يطأ أرض جورجيا حتى يشعر بأثقال التاريخ والثقافة والإيمان الأرثوذكسي الراسخ ممزوجة بسحر الطبيعة الخضراء ووفرة المياه التي تختزلها بلاد «حارث الأرض» أو «المزارع»، وهو أصل تسمية «جورجيا» الواقعة على مفترق قارتين؛ أولاهما آسيا من جهة الغرب، وأوروبا من جهة الشرق، وأحد متفرعات طريق الحرير الذي وصل الصين بأوروبا فيما مضى من الأزمان. بتعداد سكاني يناهز 4 ملايين نسمة، ورقعة أرض ذات طبيعة جبلية، تمتد على مساحة 69700 كيلومتر مربع تتمتع جورجيا بموقع استراتيجي جنوب القوقاز، جعل منها موطنًا للاحتلال والصراع الدائم بين إمبراطوريات الفرس والترك والروس. كما غزاها العرب والمغول في فترات سابقة من التاريخ، إلا أن هويتها ظلت عصية على التغيير، رغم تدميرها وتغير مساحتها في العهود المختلفة، وهو ما يلمسه الزائر جليًا في الثقافة واللغة والحضور البارز للإرث الأثوذكسي ببطريكيته المستقلة بعد أن اعتنقتها البلاد في القرن الرابع الميلادي. ومع كل ذلك، فقد أنجبت تلك الأرض واحدًا من أكثر قادة التاريخ سطوة ودموية، وهو جوزيف ستالين. المدينة التي تحبك ما إن تنهي إجراءات السفر في مطار تبيليسي الدولي حتى تشاهد لوحات إعلانية في كل مكان، تحمل شعار Tbilisi..The City that Loves You «تبيليسي.. المدينة التي تحبك». هذه المدينة لا تزال تحتفظ بطابعها العريق. ولعل أفضل بداية لزيارة العاصمة هي تبيليسي القديمة التي كانت تسمى قديمًا تفليس، وهي تعني الينابيع الحارة. وقد بنيت تلك العاصمة في أواخر القرن الخامس الميلادي عندما قدم ملك جورجيا فاختانغ الأول غورغزالي، للصيد في تلك المنطقة التي كانت غابة غناء. وتقول الأسطورة المتداولة إن أحد الغزلان المصابة استطاع الهروب باتجاه ينابيع المياه الحارة وشفي من إصابته، فذهل الملك من المياه الكبريتية الحارة وقدراتها الشفائية، فقرر بناء عاصمته في ذلك الموقع. ويمكن للسائح معاينة ينابيع المياه الكبريتية ورؤية الحمامات التي تحاذيها، التي تتخذ شكل القباب، والاستمتاع بتجربة الاستحمام والجلوس في أحواض المياه والاسترخاء بجلسة مساج هادئة. حمامات الكبريت في تبيليسي القديمة كما تحتضن المدينة القديمة ما يشبه مجمعًا للأديان السماوية الثلاثة، لا يبعد كل منها عن الآخر سوى مسافة قصيرة، فهناك الكثير من الكنائس الأرثوذكسية الشرقية، وأهمها كاتدرائية الثالوث المقدس وبيت لحم العليا، وكذلك الكنائس الأرمنية، إلى جانب كنيس يهودي ومسجد للمسلمين، وجميعها مفتوحة للزوار، بعيدًا عن قيود التفتيش، فالمدينة آمنة بشكل لافت، والتسامح يعم الأرجاء، وليست هناك تصورات نمطية مسبقة عن العرب أو المسلمين. وعند النظر إلى أعلى المدينة القديمة، لن تفوتك رؤية قلعة «ناريكالا»، التي بناها الفرس في القرن الرابع وتداول توسيعها وتحصينها الجورجيون والعرب والمغول، نظرًا لموقعها الاستراتيجي. كما يطل على القلعة تمثال الملك مؤسس العاصمة الملك غورغزالي، ممتطيًا حصانه وحاملاً سيفه. ويمكن الوصول إلى القلعة عبر سيارات الكيبل المعلقة. شارع الثقافة «روستافيلي» لا يبعد شارع روستافيلي عن المدينة القديمة سوى بضع خطوات، وهو الشارع الرئيسي في تبيليسي، الذي يحتضن البرلمان وكثيرًا من المحافل الثقافية البارزة. ولعل أهم معالم هذا الشارع هو مسرح الأوبرا الوطنية الجورجية التي افتتحت عام 1885 ولا تزال تعمل حتى اليوم. ويمكن لعشاق السيمفونيات والباليه والموسيقى الكلاسيكية حضور عروض الأوركسترا الوطنية الجورجية، التي يجري تنظيمها باستمرار. وعلى الشارع نفسه، ستجد المتحف الجورجي الوطني الذي يحتضن مجموعة أقسام تضم قسم الآثار من الألفية الثامنة قبل الميلاد وحتى القرن الرابع الميلادي، إلى جانب متحف التاريخ الطبيعي في بلاد القوقاز، الذي يضم مجموعة ضخمة من الحيوانات المحنطة التي تعكس تنوع الأحياء في تلك المنطقة، إلى جانب كثير من الكنوز والآثار من عصور مختلفة، تحكي قصة التاريخ الجورجي. وغير بعيد عن المتحف الوطني، هناك متحف الاحتلال السوفياتي، الذي أقيم عام 2006 والذي يستعرض تاريخ البلاد بالصور وغيرها من المقتنيات منذ أن أصبحت جمهورية سوفياتية عام 1921 وحتى الاستقلال عند الاتحاد السوفياتي عام 1991. ويضم حكايات عن الحركات الوطنية المناهضة للسوفيات والكفاح الجوجي تحت الاحتلال السوفياتي كما يشير اسم المعرض. ويضم الشارع أيضًا متحف الفنون الجميلة والمسرح الوطني، إلى جانب بعض التحف المعمارية القديمة مثل فندق ماريوت الذي بني قبل نحو 100 عام على يد معماري أمني. وينتهي شارع روستافيلي بساحة الحرية التي يتوسطها نصب تذكاري، والتي تحتضن مجموعة من متاجر السلع الفاخرة والعلامات التجارية العالمية الباذخة، التي تقصدها طبقة رجال الأعمال. دار الأوبرا في شارع روستافيلي لن تجد كثيرًا من خيارات المطابخ العالمية أو الوجبات السريعة، فالمطبخ الجورجي غني بالأطباق اللذيذة. ولأن البلد ذو طبيعة زراعية، فستجد أن الأجبان واللحوم والخبز والمعجنات هي عماد المطبخ الجورجي. أما ألذ أصناف الطعام، فتشمل «خاتشابوري»، وهو عبارة فطيرة بالجبن الدسم تخبز في الفرن، ويعلوها الجبن كثير النكهات، فإمكانك طلبها بالبيض الطازج أو اللحم أو الفطر أو السجق أو حتى الفاصوليا. أما الطبق الثاني، فهو «خانكالي»، وهو عبارة عن عجين على شكل أقماع صغيرة محشو باللحم المفروم مع إضافة البصل والفلفل الحار والكمون، ويطهي على البخار، فيحتفظ العجين بقوامه. ويمكنك طلب هذا الطبق بحشوة من البطاطس أو الجبن أو الفطر. أما أطيب المقبلات، فهي لفائف الباذنجان المحشوة بالجوز المخلوط بالبهارات والخل والملح. وبحكم أن البلاد موطن لملايين رؤوس الخراف والأبقار والماعز، فإن قطع اللحم الطازجة المشوية على الفحم المسماة «كباب»، هي إحدى ركائز المطبخ الجورجي، وأينما ذهبت في البلاد طولاً وعرضًا، فستجد رائحة الشواء الشهي تملأ الأرجاء. ولكن ينبغي الحذر، فالجورجيون لا يؤمنون بحصص الطعام الصغيرة، فقد يصف لك نادل المطعم حجم قطعة من الخاتشابوي على أنها لا تتجاوز 10 سنتيمترات طولاً، حتى تتفاجأ بقطعة عملاقة لا تعرف كيف ستبدأ أو تنتهي من التهامها! التنقل والجولات السياحية التنقل بين أرجاء جورجيا ضروري، ويمكن للسائح إيجاد كثير من وسائل النقل، وجميعها بمستوى لائق أو حتى ممتاز. فالعاصمة تبيليسي تضم شبكة مترو ممتازة، ويمكنك التنقل في أرجاء المدينة طوال اليوم بسعر لا يتجاوز نصف دولار. كما تمتاز البلاد بشبكة ممتازة من القطارات الحديثة المزودة بجميع فئاتها بالإنترنت المجاني ومقابس شحن الهواتف النقالة. أما سيارات التاكسي فهي متوفرة على مدار الساعة، ولا يبدو أن من عاداتهم استغفال السياح واستغلال عدم معرفتهم بالوجهات. كما تحفل المدينة بمكاتب الجولات السياحية التي تنظم جولات يومية، وهناك عدة وجهات مثيرة للاهتمام مثل ستيبانسميندا الواقعة في الشمال الشرقي على مقربة من الحدود الروسية، وتضم قمة جبل كازبغي الذي يرتفع نحو 1750 مترًا فوق سطح البحر، وهي تبعد عن العاصمة تبيليسي نحو 157 كيلومترًا. كما أن نبع برجومي للمياه المعدنية وسط البلاد هو أحد أهم المعالم الطبيعية في البلاد، ويمكن للسائح أن يشرب من مياه النبع ذات الطعم اللاذع مباشرة من النبع. وفي فصل الشتاء، تنشط رحلات التزلج على الجليد، فدرجات الحرارة تنخفض على رؤوس الجبال إلى ما تحت الصفر. ويمكن للسائح الحصول على تلك الجولات وغيرها ضمن مجموعات سياحية بأسعار تتراوح بين 20 و30 دولارًا. ميدان الحرية في تبيليسي جوري.. مهد ستالين على بعد 68 كيلومترًا شرق العاصمة الجورجية، تقع مدينة صغيرة تدعى جوري. وتكتسب هذه المدينة أهميتها على الخريطة السياحية في البلاد أنها مهد الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين. وتضم المدينة متحفًا أقيم بجانب المنزل الذي ولد به ستالين. تبدأ الجولة داخل المتحف بصور تحكي قصة ستالين منذ ميلاده عام 1878 وحتى وفاته عام 1952 مع عرض لمقتنياته الشخصية. كما يحتوي المتحف على نموذج من غرف الاعتقال أثناء نفيه إلى سيبيريا. وبعد الانتهاء من المتحف، يتوجه السياح إلى المنزل الذي ولد به لأسرة فقيرة، إذ يتضح ذلك من بساطة المقتنيات ودكان والده الإسكافي في قبو المنزل، ثم يتم الانتقال إلى عربة القطار التي كان يستخدمها منذ صعوده إلى الزعامة عام 1922، وهي تتميز بفخامة لافتة مع غرفة اجتماعات ومكتب ومطبخ. ورغم سطوته وقسوته التي لا تعرف الحدود، إلا أنه كان يخاف من السفر بالطائرة! الأغرب من ذلك أن الجورجيين لا يعتبرونه رمزًا وطنيًا، ولا يفتخرون به أبدًا، بل يعتبرونه رمزًا سوفياتيًا خالصًا لم يفعل شيئًا لبلاده الأصلية! ارتباط بالدين سوف يلاحظ السائح عمق ارتباط البلاد بالأرثوذكسية، فالأديرة والكنائس مزروعة في كل بقعة من البلاد، على رؤوس الجبال والسهول والكهوف وفي المدن والقرى، الصغيرة منها والكبيرة. وللجورجيين بطريركيتهم الأرثوذكسية المستقلة، فيما يجلس البطريرك في مقره في المدينة القديمة. وقد يصدف أن تمر بإحدى الكنائس وتجد أن رجل دين مسيحي يبارك العروسين أثناء إقامة القداس، وهو ما يحرص عليه غالبية الجورجيين الذين يتمسكون بإقامة شعائر الزواج الكنسي، رغم وجود الزواج المدني، إذ يحترم الجورجيون بشكل عام مؤسسة الزواج باعتبارها رابطة دينية مقدسة. كما أن زينة السيارات الأساسية هي الصلبان وصورة المسيح والسيدة العذراء. ورغم قيام الحكم السوفياتي بتدمير الكنائس والتضييق على رجال الدين، ظل الجورجيون متمسكين بعقيدتهم، بل إن كبار السن سيخبرونك كيف كانوا يذهبون تحت جنح الليل من أجل إقامة الصلوات والقداديس، بعيدًا عن عيون الأجهزة الأمنية! الجورجيون يختلفون بقيمهم عن المجتمعات الأوروبية المتحررة جدًا، ولكنهم في الوقت ذاته ليسوا مشرقيين. إنهم خليط محير بين هذا وذاك، ولعل هذا ما يضفي سحرًا نادرًا على تلك البلاد. البحر الأسود على شاطئ البحر الأسود في الشرق الجورجي تقع مدينة باتومي، ثاني أكبر مدن البلاد وميناؤها الرئيسي، وهي وجهة سياحية مهمة، إذ تتمتع بشاطئ يخلو من الرمال، ولا يوجد سوى الحصى داكنة اللون. كما أنها تضم المدينة القديمة مجموعة من المتاحف المميزة مثل متحف التعليم ومتحف الإثنوغرافيا، إلى جانب متحف أدجارا، الذي يضم مجموعة مميزة من التحف والآثار التي تغطي حقبًا مختلفة مثل العثمانية والروسية وغيرها، ويحتوي المتحف على 3 نسخ من القرآن الكريم. وهناك مركز باتومي للفنون والموسيقى، الذي استضاف في منتصف سبتمبر (أيلول) الماضي مهرجان الموسيقى الكلاسيكية، حيث عزفت روائع الموسيقى الكلاسيكية لبيتهوفن وتشايكوفسكي وباخ. وكما هو حال تبيليسي، تحفل المدينة أيضًا بجو من التسامح الديني، فهي موطن لكثير من الكنائس والجوامع وهناك كنيس أيضًا. ويمكن لأي زائر أن يسمع صوت الأذان بشكل واضح في أرجاء المدينة. وبالطبع، تعبر زيارة البوليفارد، حيث الحدائق الغناء والتماثيل المنتصبة في وسط الساحات قرب الكورنيش، وبجانبها حديقة الحيوانات المعروفة باسم الدولفيناريوم، وغير بعيد عنها ميدان بيازا الذي تتوسطه ساعة عملاقة. شاطئ البحر الأسود في باتومي تتميز البلاد بقلة عدد السياح، إذ لا يتجاوز عددهم المليوني سائح تقريبًا. وقد يكون هذا الأمر جيدًا من ناحية الشعور بالخصوصية والاهتمام والاستمتاع بالأشياء كما هي، بعيدًا عن الطابع التجاري للبلاد كثيرة السياح!
مشاركة :