سيشكل قيام الإدارة الأميركية الجديدة بنقل سفارتها من تل أبيب الى القدس حال تطبيقه، انعطاف حاد في السلوك الأميركي المنحاز أصلا للاحتلال، والذي يوفر له الغطاء والحماية عبر الفيتو المشرع دوما في خدمة المشروع الصهيوني، وفي وجه آمال الشعب الفلسطيني بالحرية والإنعتاق من العنصرية، والظلم، وعبر المساعدات العسكرية والمالية التي تضمن التفوق الواضح لدولة الاحتلال، كونه سيقطع آخر شعرة في سراب الوهم القائم على أن الولايات المتحدة تصلح راعيا لعملية التسوية، إذ أنها كانت وستبقى دوما حليفا رئيسيا للاحتلال، وراعيا لمشاريعه التصفوية تجاه حضورنا كمواطنين على أرضنا، كما أنه سيعيد رسم الوجه الحقيقي للإدارة الأميركية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وبنظرتها للعالم العربي والإسلامي بشكل عام، وبتعاطيها مع القانون الدولي، بمنطق الغطرسة، والتعالي، والاستكبار، إذ أن نقل السفارة الاميركية للقدس سيشكل انتهاكا صارخا للقانون الدولي، وضربا بعرض الحائط لكل مواثيق وقرارات الأمم المتحدة واتفاقيات جنيف، وهي في ذات الوقت رسالة عداء لكل أنصار الحرية والعدالة والسلام، وحق الشعوب بتقرير مصيرها في كل دول العالم، بما في ذلك أصدقاء شعبنا من المسلمين والمسيحيين واليهود، في الولايات المتحدة. على الرغم من أهمية ما تقوم به القيادة الفلسطينية من جهود دولية لحث الولايات المتحدة على إعادة النظر في توجهاتها نحو قضيتنا، وعلى أهمية جلسات الحوار الفلسطيني الأميركي الاستراتيجي الذي عقد مؤخرا في العاصمة الأميركية واشنطن، إلا أن الجهد الأهم، والعامل الأساسي الذي من شأنه أن يحمي وجودنا العربي الفلسطيني في القدس الشريف، وأن يتصدى للمؤامرة "الصهيوأميركية" الهادفة إلى اقتلاعنا من القدس ونابلس، وبيت لحم، ورام الله، كما اقتلعت معظم أجدادنا سابقا من الجليل، واللد ويافا وعكا، والمجدل، يتمثل بتحصين جبهتنا الداخلية المهترئة، عبر إنجاز المصالحة الوطنية دون تلكؤ أو إبطاء، وفقا لمعايير المصلحة الوطنية، لا المحاصصة الحزبية المقيتة، والتوافق الفوري على برنامج وطني موحد، يقوم على مواجهة المحتل، وحشد كافة الطاقات الوطنية، والإقليمية، والدولية المتاحة، بدءا بتفعيل المقاومة الشعبية، وتحريرها من قيود النخبوية والعمل الموسمي، وجعلها جزءا أصيلا من نضال شعبنا اليومي ضد الإحتلال، ودعم سلاح المقاطعة الدولية للاحتلال، والعمل على توسعتها، من خلال استثمار سفاراتنا الممتدة تحت كل سماء، وبناء المزيد من الجسور مع أبناء شعبنا وأصدقاءه في مختلف الدول، كما أن حماية القدس تستدعي بلا شك تفعيل دور الجماهير العربية والإسلامية، وتنسيق أنشطة جماهيرية في عواصم العالم أجمع، لإيصال رسالة مفادها أن هذه الخطوة تتخطى حدود فلسطين، ولا بد من التعاون، والتشاور الدائم مع أبناء شعبنا في النقب والمثلث والجليل، وكذلك أبناء شعبنا في الشتات، والذين يمتلكون طاقات وخبرات كبيرة لا بد من استثمارها، ويستطيعون، ويرغبون بفعل الكثير تجاه القدس، كما أن حماية القدس يستدعي تعزيز مقومات صمود أهلها، وهذا يتطلب من جميع الفلسطينيين، ولا سيما المقتدرين من أبناء شعبنا، أن يسندوا القدس بكافة أوجه الدعم، وأن يتجاوزوا في تعبيرهم عن مكنون مشاعرهم النبيلة تجاهها حدود الإنشاء، والعواطف، والدعاء دون عمل، فيما ينهش المحتلون أرضها يوما بعد يوم، من خلال برنامج تهويدي ممنهج، ابتدأ في القرن التاسع عشر، ولا زال مستمرا حتى اليوم، بهدف تفريغ القدس من أهلها، واستبدالهم بالمستوطنين، كما أن حماية القدس تتطلب تعزيز مواطنيها، عبر توفير مساحات من الأمل لشبابها المستهدف، الذي يتصدى وحيدا لمؤامرة تفريغ القدس من أهلها، تارة بالتجهيل، أو التهديد، أو التغريب، والتفريغ النفسي، والقيمي، عبر فرض مناهج دراسية محرفة، أو محاولة نشر المخدرات بين صفوفهم، أو تحفيزهم على الهجرة، ومغادرة المدينة المقدسة، وهو الأمر الذي يتطلب وقفة جادة، ووضع خطط حقيقية لحمايتهم، وزيارة أهلها من قبل كل القادرين على ذلك، كما أن تعميق انتمائنا للقدس يجب أن يستند إلى المعرفة والمعلومة، ولذلك فإنني أرى أن إضافة مساق جامعي، ومدرسي بعنوان "الحق العربي في القدس الشريف" سيكون له تأثير هام، في تعميق وتعزيز انتماء الأجيال الشابة تجاه القدس، بوعي، وثقة، إذ أن القدس ليست فقط القباب، والمآذن والكنائس، والحجارة العتيقة، بل هي قبل كل ذلك الشباب والصبايا والنساء والأطفال والشيوخ، هي المواطنين الذين يملئون أسواقها، والشابات اللواتي يحرسنها بوعيهن، وانتمائهن لها. من واجبنا أن نفعّل كل أوراق الضغط الدولية التي نمتلكها تجاه أي قرار عنصري كهذا، بما في ذلك استثمار وجودنا اليوم في مؤسسات الأمم المتحدة، دون أن نساوم على ذلك الحق مقابل عدم نقل السفارة، كما أنه من الهام تنسيق المواقف مع الدول العربية والإسلامية، إلا أن الأهم هو تعبئة الجماهير قبل الحكومات، لما لموضوع القدس من قدسية هامة في وجدانهم جميعا دون استثناء، وأن ندعو لأنشطة جماهيرية سلمية، تبرق رسائل تقول بأن هذه الخطوة العدوانية هي عدوان على كل العرب والمسلمين وأنصار الحرية والإنسانية في كل مكان. الأهم أن عدم نقل السفارة، أو إرجاء القرار، يجب أن لا يوهمنا أننا حققنا نصرا مبينا، وأن لا يدعونا للتواكل، إذ أن ما تتعرض له القدس يوميا من عمليات تهويد قاسية، وما يواجهه يوميا أهلها من صعوبات تهدد وجودهم فيها، يستدعي منا جميعا، أن نتخطى ردود الفعل الموسمية، والهبات العاطفية، باتجاه خطة إستراتيجية تقوم على الفعل والمبادرة، وتجعل من تثبيت المقدسي في أرضه ومدينته أولوية قصوى على المدى القريب، عبر توفير مقومات ذلك، ومن ثم الارتقاء نحو وضع إستراتيجية وطنية تقود نحو استرداد حقنا في القدس، وهو الأمر الذي يجب أن تستنهض من أجله كافة الطاقات، الرسمية أولا، والأهلية والوطنية في ذات الوقت، إذ أن حضورنا في الوطن يبقى منقوصا، ونبضات القلب الفلسطيني تبقى غير منتظمة، دون أن تكون القدس عاصمتنا وقلبنا النابض، وتاج فلسطين. رائد محمد الدبعي
مشاركة :