فلسفَة المسَافة.! | يوسف بخيت

  • 10/20/2016
  • 00:00
  • 30
  • 0
  • 0
news-picture

المسَافة في عِلم الهندسَة هي البُعدُ بين نُقطتَين، لكن لها معانٍ أُخرى عديدَة، روحيّة ونفْسية وعَقليّة واجتمَاعيّة، وكلّ معنى مِن هذهِ المعَاني له ظُروفهُ الخاصّة، تتأثرُ بهِ المسافةُ زيادةً أو نقصانًا، وتتغيّر قيمتُها ومعناها بحسبِ تغيّر تلك الظرُوف مِن وقتٍ إلى آخَر، وينعكسُ هذا التغييرُ على الإنسان، ليجرّعهُ كأسَ الألم، أو يسقيهِ شهْدَ الأمل. يُروَى عن علِيّ بن أَبي طالب رضي اللهُ عنه وأرضاه أنه سُئل: كَم المسَافة بينَ السّماءِ والأرض؟ فأجاب: دعوةٌ مستجابة، وهذا مِن فقهه رضيَ اللهُ عنه، وهو الناهلُ مِن ينبوعِ النبوّةِ ونَميرِها الصّافي، فقد أجاب، بلا ريب، مُستشعِرًا قَولَ اللهِ تعالى: «وإذا سألكَ عِبادِي عنّي فإنّي قريبٌ أجيبُ دعوةَ الداعِ إذا دعان»، وفي قصّة يونُس عليهِ السلام معنى عظيم للمسافة، حين التقمهُ الحُوتُ، «فنادى في الظُّلماتِ أنْ لا إلهَ إلا أنتَ سبحانكَ إنّي كنتُ مِن الظالمِين»، فاستجابَ اللهُ تعالَى دعاءَه وأنجاه، وجاء عن سيّدنا ونبيّنا محمد عن دعوة يونس عليهِما الصّلاة والسلام أنه ما دَعا بِها مكروبٌ إلا فرّج اللهُ عنه. ويَفهمُ الأدباءُ معنى المسَافةِ بطريقَتِهم الخاصّة، يقولُ قيسُ بن ذُريح: فإنْ تكُ ليلَى قد أتَى دُوْنَ قُرْبِها حِجابٌ منيعٌ ما إليهِ سبيلُ فإنّ نَسِيمَ الجَوِّ يَجْمعُ بينَنا ونُبْصِرُ قَرْنَ الشمسِ حينَ تزولُ وأرواحُنا في الليلِ بالحيِّ تلتقي ونَعْلَمُ أنّا بالنّهارِ نَقِيْلُ وفي روايتِها (الأسْود يليقُ بِك) تقولُ الأديبَةُ الجزائريّة أحلام مستغانمي: الحُب هو ذكاءُ المسَافة، أن لا تَقترِبَ كثيرًا فتلغِي اللهفَة، ولا تبتعِدَ طويلاً فتُنسَى، أن لا تضعَ حطبَكَ دفعةً واحدةً في مَوقِد مَن تُحِب، أن تُبْقِيهِ مُشتعِلاً بتحريكِكَ الحطبَ، ليسَ أكثَر، دُونَ أن يَلْمَحَ الآخَرُ يدَكَ المحرِّكةَ لمشاعرِه ومسَارِ قَدَرِه. وهكذا نفهَمُ أنّ المسَافةَ حقيقةٌ وشُعور، إنها الطّريقُ الأخضر الفاصِلُ بيْنَنا وبينَ أمانِينا ورغباتِنا، وهذا الطريقُ لا يُمْكِن اجتيازُه بالجُلوسِ والاستغراقِ في التّفكير، بَل بالعَملِ الجادّ والرغبةِ الحَقيقيةِ أنْ يَصِلَ الإنسانُ لِما رسَمَه في خيالِه، واستقرّ في عَقلِه، مُستعينًا باللهِ تعالى، متسلِّحًا بالأملِ وقوّةِ الإرادةِ، مع النهُوضِ والمحاولةِ مِن جَدِيد بعْدَ كُلِّ عثْرة. المسَافة بينَنا وبيْنَ مَن نُحب، لا تُقاسُ بوحداتِ المسَافةِ المَعروفة، ولا نَقْطَعُها بوسائلِ المواصَلاتِ المُتعدِّدة، إنّها تُقاسُ بالكلمَات، فيكْفِي أنْ نكتبَ رسالةً قصيرة، لا تتعدّى بِضعةَ أسطُر؛ فإذا بالمسَافةِ تتلاشَى بينَنا وبينَ أحبابِنا البَعيدِين، وتُصْبِح قِيمتُها صِفْرًا. كَم مِن أشخاصٍ يعيشُون معَنا، أو يُقِيمُون بالقُرْبِ منَّا، ولكنّ المسافةَ المَعنويّة بيننا وبينهُم هائلةٌ والوَحشَة مُخيفة، بينما يعيشُ أولئكَ البعيدُون مكانًا في قلوبِنا، يُؤنسُون أوقاتَنا، ولا تكفُّ عقولُنا عن التفكيرِ بهِم. مِن أَعْذبِ المعَاني التي قرأتُها في فلسَفةِ المسَافةِ: هناكَ شخصٌ واحِد، على الأقل، يَخُوضُ الحياةَ راغبًا الوصُولَ إليك، متأكّدًا طوالَ طَريقِهِ أنكَ فُرْصَتهُ الوحيدَة والأخيرَة.! تويتر : @yba13 anayba2013@gmail.com

مشاركة :