قلّما يلجأ المبدع شاعرا كان أو قاصّا إلى كتابة مقدمة لمنتجه الأدبي ؛ يستهل رائد قاسم هذه المجموعة التي تتكوّن من عشر قصص بمقدمة يتحدّث فيها عن علاقة القصة بالحياة ، وعن قدرة الإنسان على اتأثير في مسار حياته بل وصنع هذا المسار ، وهي عتبة تقودنا إلى وعي الكاتب بما يريد أن يحقّقه من وراء كتابة قصصه ؛ فضلا عما توحي به العتبات الأخرى من الإهداء إلى تصميم الغلاف إلى عناوين القصص ، ولا يستطيع القارئ أن يتجاهل هذه العتبات بوصفها علامات سيميائية توجّهه و تقوده إبان القراءة . ومنذ القصة الأولى المعنونة ب (صالون الذكريات) يبث الكاتب علاماته التي تؤشر إلى البنية الدلاليّة في النص : الراوي العليم ممثلا في السارد بضمير المتكلم،وهذا السارد الذي يمتلك زمام القص ويهيمن على الخطاب ، وهو الأنا الثانية للكاتب يتخلّى عن عملية السرد ليتولى زمامه راوٍ داخلي ممثلا في (العم محمود) و مرويٍّ له وهو (الحلاق ) وتتحول القصة إلى مشاهد حواريّة متعاقبة ، وهذا مؤشر رئيس على الرسالة التي يريد أن يرسلها الكاتب عبر هذا الانتظام في الزمن (الأسابيع الأربعة) التي يستغرقها المتن الحكائي ، وهي تنسجم مع ما جاء في المقدمة من مؤشّرواضح وصريح؛ فالبنية السطحيّة للنص تؤشر إلى خريطة الوضع الاجتماعي الذي يعبرعنه بطل القصة ومجمل حركته و سلوكه بوصفه نموذجا لشريحة اجتماعية تعبّر عن جوهرها و اهتماماتها ؛ وقد قدّمها الكاتب وهي تعمل وفقا للشروط الفنيّة للقصة القصيرة كما أشار إليها رشاد رشدي في كتابه عن فن القصة القصيرة، حيث المثلّث الأرسطي المعهود( البداية و الذروة و لحظة التنوير ) كما تعبّر عن لحظة الأزمة كما وصفها (أوكونور و إيخنباوم ) وما انتهت إليه من إغلاق الصالون بسبب عدم الانضباط و فلتان اللسان ، و اختيار المكان وهو صالون الحلاقة، وهو المكان الذي يجسّد جدلية الانغلاق و الانفتاح و يهيئ المجال لبيئة حوارية حرجة بين الخصوصيّة و العمومية ، وقد عمد الكاتب إلى تسليم زمام الحكي للعم محمود الذي يجلس على كرسي الحلاقة في حين المألوف أن يكون الحلّاق هو الذي يتولى عادة زمام الحكي ، فقلب الأدوار المعتادة منزاحا عن المألوف ليفضي بالفكرة التي يريد التعبير عنها حيث ينخرط الزبون في الحديث متتبّعا التقلّبات التي تلم بالواقع فهو العين الجوّالة التي ترقب التغيّرات ، فالبنية السطحية البسيطة للقصّة تقدّم صورة عن الواقع من خلال الوصف المباشر الذي يرصد التراتبات الاجتماعية و البيئة المهيّئة للإدلاء بهموم النماذج التي تأتي إلى هذا الصالون وهي متعددة و متباينة، وترصد أدق التفاصيل ممثّلة في احترام الكبير و تقديمه و إيثاره ، أما البنية العميقة فتتمثل فيمال وراء التفاصيل من مؤشرات دلالية حيث ينبئ سلوك العم محمود إزاء وفاة حفيده و ردود فعله الباردة إزاء الحدث : وكأنه شيء معتاد ، ثم صمت الحلاق إزاء إسراف العم محمود في الثرثرة ، هذه العلاقات التي تجسد البنية العميقة للنص التي تتمثل في ما وراء المتن السردي ، ابتداء من دلالات الأسماء (العم محمود ) والمفارقة التي تدل على فعل غير محمود في إطلاق الكلام على عواهنه و عدم الاكتراث لحدث جلل ممثلا في وفاة حفيد، ه و الإشارة إلى اغلاق الصالون بسبب فلتان اللسان مقارنة بالصمت الذي يلوذ به الحلاق ، والاحترام الذي حظي به العم محمود في حين أنه لم يقابل هذا التقدير بما يستحق ، هذه المفارقات و المقابلات و التشاكلات و الدلالات الخفية الكامنة وراء الأسماء و التفاصيل الصغيرة و البناء الحواري الذي يطغى فيه الصوت الواحد و المؤشرات الزمنية (الثلاثاء ) و مرور (عشر سنوات ) على افتتاح الصالون و هو عقد كامل يمثل وحدة زمنية تعد جيلا كاملا تحدث فيها تحولات تاريخيّة مهمّة وفقا لإيقاع العصر، فقد تعاقب على الصالون خلاله خمسة عمال ، وهي علامة دالة على سرعة التغيير ، والمفارقة المتمثلة في حث (العم محمود) للحلاق على إتقان الحلاقة لأنه ذاهب إلى مأتم ، وهو مؤشّر دلالي مهم على تحول القيم الاجتماعية ، وتعليقات العم محمود التي تطال مختلف نواحي الحياة وانتقاداته المستمرة لكل مرفق من مرافق الحياة ، وقد أدت التراكمات التي خلفتها ثرثرات العم محمود إلى إيقاع الحلاق في شرك أحاديثه المجانيّة التي أدت به إلى مصير من سبقوه ، فكانت لحظة التنوير كاشفة للدلالة العميقة التي أراد أن يعبر عنها ؛ ولكنها تظل على مسافة قريبة من البنية السطحيذة للقصة دون أن تفقد القيمة المضافة التي تبدّت عبر ما هو معروف في نظرية الاستقبال ( المسافة الجمالية) وهذا الاتكاء على مركزية الوعي والانطلاق اليقظ من رؤية واضحة يبدو واضحا في معظم قصص المجموعة ، ففي قصته ( آخر الليل) ينهج نهجا حواريا ، فتبدو القصة أشبه بالمشهد المسرحي ، فثمة حوار عبر الهاتف بين شخصية أنثوية و أخرى ذكورية في عبارات مقتضبه ؛ وهذه الثنائية تمتد لتشمل الزمن ؛ فهناك زمنان : ماض تحاول الشخصيةا لأنثوية أن تحييه من جديد بينما الطرف الأخر يعتبره من رميم التاريخ و يرفض العودة إليه ؛ فهو زمن مضى و انقضى ويتنكّر له و يرفضه ، وذلك ينسجم مع عنوان القصة ، فكلمة الآخر تؤشر إلى النهاية ، و الليل يؤشر إلى نهاية الظلام ، وهذه الرؤية التي تنبني على التحول و التغير هي التيمة الرئيسة في المجموعة ، الحوار في القصة ينهض على الحجاج المنطقي بعد أن يرفض الطرف الأول الحجاج العاطفي فيبثّ الكاتب من خلاله أفكاره الرئيسة الزمن و التحول هاجسان رئيسان في هذه القصة و في قصص المجموعة: “ هي : أنا حبيبتك التي عادت إليك من ماضيك المؤلم لأعوضك إياه بمستقبل مشرق بديع . هو : في الماضي كان لي حبيبة والماضي لم و لن يعود هي : ولكني عدت هو : كلا لم تعودي” هذا الحوار فيه رفض للماضي رفضا قاطعا و إيمان جازم بالتغيير على الرغم من كل الوعود ، وفي المقاطع الحوارية التي تتلوه حديث عن فلسفة القوة و تحقيق الذات و ارتباط التحول بالإرادة البشرية كما جاء في المقدمة ، و الردود الصارمة حول الذكورة و الأنوثة و خلط المفاهيم حتى لتكاد تتحوّل القصة إلى حجاج مستمر وجدل دائم. لقد استثمر الكاتب تقنية اتصاليّة عوضا عن المواجهة تمثلت في الاتصال الهاتفي عوضا عن المواجهة ، وحاول السارد بضمير المتكلم أن يجعل المتّصلة مجهولة تحاول استعادة حب قديم منزاحا عن التصريح المباشر بحقيقة المتصلة الأنثى سعيا وراء التجريد و التعميم على غير المألوف في الحوارات التي مدارها العشق ؛ بل هو يتخذ منها موقفا حاسما واصفا إياها بالشيطانة موغلا في التغميض إذ يختم القصة بقوله “من أي مجهول جاءت هذه المرأة و إلى أي مجهول سترحل “. على النهج نفسه في قصته (لقاء في المشفي) يمضي متسائلا عن القضايا الوجودية الكبرى حيث يستغرق الحوار بين الكاتب و الممرض جل مساحة الفصة ، وتنبني العلاقة بينهما على أساس الإجابة على أسئلة فلسفية تتضمن الإجابة عن تلك القضايا ، حيث يموت الكاتب ؛ ولكنّه يظل حيّا في ذاكرة صديقه الممرض عبر الإجابة عن تلك الأسئلة ، نظرته إلى الروح و النفس و الذات ، ومن الواضح أن البنية الظاهرة تقود تلقائيا إلى البنية الباطنة التي تولّد الدلالة فالدلالة تولد في إهاب اللغة التي تدّخر حمولتها في ذاتها، فالمسافة الجمالية مختزلة وقريبة فلا تكاد تتشكّل من خلال تقنيات بعيدة الغور ؛ بل إنها كامنة في طيّات التأويل القريب ؛ فليس على القاريء المؤول سوى فضّ الغطاء الشفيف ليلتقي وجها لوجه أمام قصدية الدلالة “ الحياة جزء من الوجود ، و الوجود ليس سوى هذه العوالم التي لا نهاية لها ، وحياتنا جزء منها و الجسد رداء للنفس و النفس رداء للذات و الذات هي الأنا، و الأنا هي الإنسان ، والروح هي الطاقة التي تهب الحياة للإنسان” أما القصة فتتشكل من بداية الدخول إلى المكان(المشفى ) وقد تم اختياره على الحدود التي تقع بين البقاء و الفناء ، و جعل الكاتب نزيل هذا المكان بما يوحي به من برزخيّة الموقف ، وجعل من الأوراق و المقالات و الكتب ملازمة له في رحلته في هذا المكان الذي عبر منه إلى النهاية؛ بينما بقي منه فكره و أثره في المجتمع متمثلا فيمن تتلمذ على يده وهو الممرض الذي لازمه و تواصل معه قبل موته و فيما عاهد نفسه عليه من وفاء لمبادئه . فثمة شخصيتان ولحظات توتر و أزمة و أسئلة معلقة و لحظة تنوير . ولا تخرج قصة (الفول ) عن بنية الحوار التي تتمثل لونا من ألوان الوجود الإنساني عبر ثنائية الفقر والغنى و الصحة و ىالاعتلال و العدل و الظلم ، سلسلة من المشاهد التي ترتكز عل ى شطري ثنائية وجودية. في قصته (الزمنكان) يصف رحلة صديقين من الرياض إلى الدمام حيث يتوقف بهما الطريق عند مسافة ثابتة بين المدينتين : على بعد ثلاثمئة كيلو متر بين الرياض و الدمام وحين يحاولان العودة إلى الرياض تبقى المسافة كماهي، فهما يدوران في حلقة مفرغة حيث يمضي الزمن وتتوقف الحركة و لا يستجيب لهما أحد فيقعان في مأزق البقاء على تلك المسافة المحددة وكأن الكاتب يرمز إلى عقم الحركة إذا لم تكن منتجة و إلى لغز البقاء و الوجود الذي يظل بلاحلّ. قصته (لست أنا ) تنبني على الحوار ، ولست أنا المقطع الوحيد الذي يردّده ردّا على المحقق لاتهامه بالقتل ، فالإنكار هو السلاح الوحيد الذي حارب به التهمة ، وهي تدور في فلك المسألة الوجودية التي جعل منها محورا لمجموعته القصصية ، وعلى الرغم من أن البنية السطحية للنص تفضي بشكل مباشر إلى اعتبار أنها تدور حول قصة بوليسية و واقعة تأكدت فيها كامل أدوات الجريمة و حيثيات الحكم على المتهم فإن الحل جاء بسيطا فانقشعت الغمامة و بانت الحقيقة ، فنحن أمام حادثة عادية غير أن الكاتب نجح في تخطيبها أي جعلها نصا سرديا و خطابا قصصيا فنّيا فدخل إلى جوهر القصة مباشرة دون مقدمات فأحدث الصدمة المطلوبة التي من شأنها شد انتباه المتلقي وحرصه على المتابعة ثم انتقل من الصدمة إلى الدهشة التي أحدثتها المفارقة التي تقوم على ثنائية الثبات ة النفي ثبات الأدلة و نفيها وصولا إلى جوهر الحقيقة ، والوجه البوليسي القائم على حل اللغز الذي يبدو هو المقصود ما يلبث أن يقودنا إلى عمق دلالي أبعد غورا يكشف عن فلسفة وجودية تمثل انبلاج الحق وما كشفت عنه الطبيعة البشرية من انسحاب و تخلٍّ عند وقوع المصائب حيث النأي بالذات واعتزال المبتلى ثم العودة السريعة بعد انتهاء الأزمة ، هذا البعد البراجماتي الذي يحكم سلوك غالبية البشر ، فهو يشكّل بعدا من أبعاد فلسفته الوجودية القائمة على التحرّك من أجل اقتحام الخفايا و الوصول إلى لب اللباب و عدم التسليم بالظواهر الخادعة ، فهي من الناحية الفنية تنهض على المثلث البنائي المعتاد في بناء القصة القصيرة : البدء و الذروة و الانفراج ، والتعبير عن الأزمة و لحظات التوتر. في قصة (ليل بلا نجوم) ثيمة قديمة حديثة ، مأساة المرأة التي تتزوج من رجل أكبر منها سنا رغم إرادتها ، ولكن الجديد هو انتحارها ليلة زفافها ؛ فهذه طفرة تدخل القصة في الإطار الفلسفي العام لمسألة الوجود و العدم ، حين تفقد الحياة معناها تصبح عدما حينما يقفد الإنسان حرّيته تصبح فناء، النهاية صادمة وصارخة و غير مألوفة ولكنها ليست مستبعدة. وفي (تموجات) نزعة تجديدية واضحة توميء إلى تشكيل جديد يتساوق فيه الحوار بالكلمات مع الحوار بالأشياء ، تنوب هذه الأشياء عن الجوارح ، ويصل التدمير لها ذروته نيابة عن تدمير الذوات ، فحين يغضب الزوج أو تغضب الزوجة يلتمس كل منهما إفراغ شحناته في الأثاث فيأتيان على كل الأشياء الثمينة ، ولكن ذلك كله ينتهي إلى التصالح ، وكأن الكاتب يريد أن يقول : كسر اأشياء يغني عن كسر النفوس؛ فلسفة وجودية يتبدى من خلالها الإعلاء من قيمة الإنسان و قدرته على تحويل المسارات لتفادي الانكسارات . وهكذا تمضي قصص المجموعة تولّد الدلالة من المعروف و المألوف والبسيط وتقدم الفلسفة عبر الحوار المعتاد و الحديث المكشوف تختصر المسافة الجمالية و لكنها لا تضحي بالرؤى و الدلالات.
مشاركة :