النسخة: الورقية - دولي فجأة، طفت ليبيا إلى سطح أحداث بعد أن كانت البلد الأقل حضوراً في المشهد الإعلامي المعقّد لما كان يدعى سابقاً بالربـيع العربي. ربما بدا للبعض أن غياب ليبيا سـابقاً من هذا المـشـهد هو عـلامة صحّة وشاهد على أن الأمور تسير بخير، وهم يكتشفون اليوم خطأ هذا الانطباع. وقبل الثورة، لو سألت أكثر الناس من خارج ليبيا هل يعرفون اسم ليبي مشهور لأجابوا في الغالب أنه القذّافي، فلقد اختزل البروز الإعلامي الصاخب للديكتاتور كل البلد، فكأنه كان ممنوعاً أن يبرز ليبي غيره، سياسياً كان أو طبيباً أو مفكراً. وعانى الليبيون من العزلة بما لم يعانه أيّ شعب آخر، ووضعت البرامج التعليمية والثقافية على مدى عقود لتفصل المواطن الليبي عن العالم، تفصله فصلاً ذهنياً أيضاً، بفرض مناهج عجيبة غريبة في التدريس وتضييق الخناق على اللغات الأجنبية وقطع النخب الليبية عن مثيلاتها في العالم ومنع الصحف الأجنبية وفرض الفوضى في التسيير العام تحت مسمّى اللجان الشعبية. لكنّ الليبيين يواصلون هذه العزلة حتّى بعد التخلّص من القذافي وحكمه، فالعالم لا يعرفهم جيداً وهم أيضاً لا يحسنون التعامل مع العالم الخارجي. ويضاف إلى السبب الذي ذكرناه خاصيّة الإنسان الليبي الذي هو إنسان ذو طباع بدويّة تقوم على المروءة والكرم، فهو لا يبادر من تلقاء نفسه بالشكوى ولا يرى لائقاً به طلب المساعدة من الغير. بيد أنّ ليبيا تحتاج اليوم الى أن تفكّ عنها هذه العزلة، وأن يعرف العالم أنها تحتاج إلى المساعدة السريعة قبل فوات الأوان. أجل، ثمة مفارقة في الأمر، فليبيا تبدو نظرياً الحالة الأقل استعصاء بين الثورات العربية، إذ أنّ الثروات الهائلة للبلد من النفط والغاز مع العدد المحدود للسكان (حوالى ستة ملايين نسمة) يوحى بأن الوضع الليبي يمكن أن يحلّ بأيسر السبل، لكنّ التطبيق هو أعقد دائماً من النظريات، فالنفط الليبي، مثل النفط العربي عامة، كثيراً ما يكون لعنة لا نعمة، ذاك وضع ليبيا مع القذافي وسياساته التي لم تتواصل عقوداً إلاّ بفضل الريع النفطي. أمّا بعد الثورة، فقد أثار النفط شهيّة الجميع من الداخل والخارج، فالتدخل العسكري الغربي لمساعدة الثورة الليبية كان ثمنه الصفقات النفطية التي لا يعلم الكثير من تفاصيلها إلى الآن، وضعف بنية الدولة مقابل قوّة الانتماء القبلي، يطرح المشكلة المعقدة للاقتسام العادل للثورة النفطية، لا سيما أن الحقول النفطية ليست موزعة بالتساوي بين المناطق، وأن الاقتصاد الليبي قائم كله على الثورة النفطية. من هنا نفهم تعقّد قضية الميليشيات في ليبيا، لأنها ليست مجرد تنظيمات عسكرية محدودة ورثتها البلاد عن فترة الثورة، إنما هي امتدادات قبلية، لا يشذّ عن ذلك إلا ما كان قريباً من التنظيمات الدينية المتطرفة، فوضع ليبيا يذكّر بأفغانستان بعد انسحاب القوات السوفياتية منها، أو العراق بعد انهيار نظام صدام حسين، مع الفارق أن الميليشيات الليبية ظلت إلى حد الآن منضبطة ولم تدخل في مواجهات كبرى، بيد أن فتيل العنف كان يهدّد بالاشتعال في أي لحظة. فما لم يبادر المجتمع الدولي بمساعدة ليبيا بأقصى درجات السرعة فإن الوضع قد ينفلت انفلاتاً تتجاوز أضراره ليبيا إلى جوارها العربي والأفريقي والبحر الأبيض المتوسّط وجنوب أوروبا. في الأشهر الأخيرة، انتبه المجتمع الدولي إلى الخطر بعد حادثة اختطاف رئيس الوزراء علي زيدان في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي ثم احتلال مقرّات الجيش الليبي. لقد كان الدرس واضحاً، وهو أن ليبيا ليست فيها دولة ولا جيش قادران على فرض القانون على الميليشيات، لكن في الواقع كانت صفارات الإنذار قد انطلقت قبل ذلك بكثير، وعلى سبيل المثال، لم يدرك المراقبون خطورة القرار الذي أقدم عليه المجلس الوطني الليبي، بتحريض في الراديكاليين والفوضويين، بإقصاء كل من تولّى مناصب في النظام السابق ولو ساهم في المعارضة والثورة، وكان من ضحايا ذلك رئيس المجلس نفسه محمد المقريف. والحال أن هذا القرار قد حرم ليبيا من الكفاءات القليلة التي يمكن أن تسيّر الدولة بشيء من النجاعة. ولنتذكر أن السيد المقريف كان انفصل عن نظام القذافي منذ 1981، وأسس من الخارج «جبهة الإنقاذ الوطنية»، لكنّ الأميركيين شجعوا بعد ذلك «الجماعة الإسلامية المقاتلة» التي أسسها عبدالحكيم بلحاج وأبو أنـس الليبي وثلة من المجاهدين الأفغان، قبل أن ينقموا على هذه الجماعة لما اقتربت من «القاعدة» في 2001. ولقد استطاع المتطرف بلحاج أن يهزم مجدّداً المعتدل المقريف بقانون العزل السياسي ويخرجه من الحياة السياسية. وجاءت حادثة خطف القوات الأميركية لأبي أنس الليبي لتشعل البلد وتكشف المستور وهو أنّ القوّة الحقيقية هي للميليشيات القبلية والميليشيات القريبة من «القاعدة». لقد بادر وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في اجتماعهم الأخير بتقديم مقترحات عملية لمـسـاعدة ليـبيـا على تطويق الميلـيشـيات وجــمع السـلاح، لأنّ الأوروبــيـين يـخــشــون أن تـتـعاظم موجات الهـجـرة من الـجـارة الجنوبيـة. وهذه الخطورة على أهميتها لن تكون كافية، وربما لن تكون قابلة للتحقيق. صحيح أن الخطأ السابق كان في الاعتماد على دولة ليبية شبه معدودة لجمع الأسلحة، وأن ذلك يعني في الحقيقة مطالبة الميليشيات بتسليم أسلحتها إلى ميليـشـيات منافـسة، وصحيح أنّ تعيين طرف خارجي ليقوم بعملية الجمع يمثل حلاًّ من الحلول الممكنة، وقد دعا إليه رئيس الحكومة علي زيدان. لكن من المستبعد أن يقبل الليبيون بتسليم أسلحتهم إلى الأوربيين أيضاً، والحلّ الصحيح هو مبادرة مشتركة بين الأمم المتحدة والجامعة العربية، أو من الأمم المتحدة وحدها، إذا تعذّرت مـشاركة الجامعة، للسيطرة على جزء من السلاح الـسـائب والحدّ بما أمكن من ضغط الميليشيات، مع الإسراع بأعمال المجلس وإعلان الدستور في أقرب وقت ممكن كي تبدأ عملية بناء الدولة اللـيبية، وإعادة الاعتبار لبعض الـشـخصيات الســياسية ذات الماضي النضالي، لأنها الأكثر قدرة على تنظيم الدولة في المرحلة الحالية.
مشاركة :