رأسٌ بلا جسد. جسدٌ بلا رأس

  • 3/11/2014
  • 00:00
  • 19
  • 0
  • 0
news-picture

القصص والروايات الناجحة، محلياً أو عالمياً، هي تلك التي تستوحي تفاصيلها من المجتمعات المحلية. ونجيب محفوظ لم ينل جائزة نوبل في الأدب إلا لأنه أسهب في الكتابة عن تفاصيل دقيقة في أزقة شعبية عاش فيها طفولته وشبابه. كذلك هامنغواي وشكسبير وديكنز وماركيز وفيكتور هيغو وتشيخوف ودستوفسكي والطيب صالح والعراقي الصميم غائب طعمة فرمان صاحب أيقونة الروايات العراقية: النخلة والجيران. وبحكم الاغتراب والهجرة لم أعد أقرأ كثيراً من النتاج القصصي العراقي في سنوات الاحتلال والعنف. لكنني أفخر لأن بعض هذا النتاج نال جوائز الصدارة في مسابقات عربية فبرزت أسماء لامعة واصلت طريق غائب طعمة فرمان وعبدالمجيد لطفي وجعفر الخليلي وعبدالرحمن مجيد الربيعي وعبدالستار ناصر وإبتسام عبدالله ولطفية الدليمي وبثينة الناصري وعالية ممدوح ومبدعين آخرين اعتذر لأنني لا أستطيع ذكرهم أو تذكرهم في هذه المحنة الوطنية. وأريد أن أوضح أن بداياتي كانت قصصية، لكنني تركتها إلى الصحافة لأن كتابة القصة «ما توكل كيك». وقد فوجئت قبل أيام بجريدة «أخبار الأدب» الأسبوعية المصرية تخصص أربع صفحات لخمسة قاصين عراقيين شباب هم علي عباس خفيف ونعيم شريف وأحمد سعداوي ولؤي حمزة عباس ورياض كاظم. وأنا أكتفي هنا بنموذج لأثبت نظريتي في أن الإبداع لا يكون عالمياً إلا إذا كان محلياً. في هذه القصة يصدمنا علي عباس بأمنية شديدة القسوة: «ليتهم تركوا رأسي»! وأدع مكاني له ليروي جانباً من المأساة التي يحس بها كل عراقي في هذه السنوات الدامية مثل عصير الفراولة: «لا بد أن التفكير الطويل بالخوف أمر محزن، وهو ما حدث لي عندما كنت أقترح لنفسي أشياء عن موتي المأساوي، وأفكر بأن هذا لا بد أن يحصل يوماً ما. من الطبيعي جداً أن يشعرني هذا بالخوف، ويسبب لي الألم. داهمني هذا الشعور حتى على الوسادة، فكنت أحلم مرّات ومرّات بصور تتكرر، عن رأسي المفصول عن جسدي. هذه الذكريات مؤلمة. حين عدت، هذه المرة إلى البصرة، جئت لأقص حكاية، جئتها ولم أتعرف على الأماكن الآهلة التي مررت بها. كان غيابي طويلاً، والمدينة لبست أثواباً متغيرة ، كما يبدو. في الحقيقة، هذه تجربتي أنا، التي أحاول كتابتها، وهي تجربتي الوحيدة. ولا أريد أن أحكي كيف أمسكوا بنا نحن الثلاثة، رجلين وأمرأة، ولا بماذا أوثقوا يدي خلف ظهري، أو كيف أجلسوني على ركبتيّ، ولا أريد أن أصف رعبي حين أروني السكين، وأغمضت عيني، ومع ذلك بقيت أبصرهم، وأرى ما يفعلونه. ولن أصف كيف أمسك أحدهم بشعر رأسي وكشف عن عنقي، ليضع السكين عليها. لا أريد أن أتحدث عن دموعي، أو ذكرياتي، أو حبي لأهلي وأبنائي وزوجتي، ولا عن حسرتي على الأشياء الجميلة التي سافتقدها، أو الأحلام التي لم أحققها.. لم يعد هذا مهماً الآن.. كما لا أريد أن أصف كيف آلمني نصل السكين وهو يقطع لحم عنقي، مع أن الألم لم يلبث طويلاً، أو كيف شعرت بالخدر، ثم بالراحة حالما تدفق دمي من الودجين المقطوعين، وداهمني النعاس، أو كأن النعاس قد تجمع داخل رأسي واحتل عينيّ، ثم كيف ذهب الألم. ولا أريد أن أصف كيف غرقتُ في طوفان من الراحة، وطفقت أرى الجميع، من خلال ضباب مثل الدخان، أو من خلال رهج الضوء المشتت في دقائق الضباب، وبدأت أتعرف الآخرين. لم يعد الملثمون مهمين بعد ذاك. كنت أفكر بالشخص الذي اتكأ جسده الدافئ على كتفي، ثم بدأ يبرد بعد لحظات، وكان جسمي يبرد أيضاً. لكن جسده كان يضغط على جسمي وهو ينحني، ولم أشعر بالضيق من ذلك الجسد المتهاوي بلا رأس على كتفي. ولا أرغب في الحديث عمّاذا تمنيت، حين تمنيت شيئاً واحداً، هو؛ لو أنهم تركوا رأسي في مكانه، لرأيت عندها ذلك الذي كان يتكئ على كتفي، لو أنهم لم يدحرجوا رأسي، من دون أن أراه، مع رؤوس آخرين.. لكن الحسرة بقيت في صدري، من دون أن أستطيع التخلص منها، بقيت محبوسة هناك، وكرهتُ أن تبقى حسرة في صدري، ولا أستطيع أن أزفرها، لأن عنقي مقطوعة»... «هذا هو اليوم السابع، وكما في كل مرة، يسحب الممرض المناوب الجرارَ الذي ألقوا جسدي فيه، فيلفحني بعض الدفء. إذن هناك زائر. يمسك الزائر بطرفي أصبعيه، السبابة والإبهام، معصمي، ويرفع ذراعي، يبحث عن علامة، عَلّه يجدها، تحت إبطي، على الساعد، أو في باطن لحم زندي. كذلك فعل هذا الزائر، ثم أنزل ذراعي برفق، يخشى أن يوقظ جثة بلا رأس، وقال آسفاً، كما لو كنت أنا من يأسف: لا، ليس هو. في كل مرة من مئات المرات، لست أنا! وفي كل مرة، تمنيت، دونما جدوى، أن يحتضنني الزائر فجأة، ويصرخ باكياً بأعلى صوته: أخي أو ولدي.. زوجي أو أبتي.. لأعرف عندها أنني عدتُ إلى أهلي. حين دفع الممرض المناوب الجَرّار، ليعيده إلى مكانه، أردت أن أتوسله: رحماك، لا تغلق الجرار مرة أخرى. لكن رأسي ليس معي، فمن أين لي بفم أتوسل به، كي يسمعني الممرض المناوب! المئات من حولي يبكون بلا عيون، أو يتوسلون بلا أفواه، من القلب فقط، القلب المتجمد الصلب. كان هذا هو اليوم الأخير، وربما كان هذا الزائر هو الزائر الأخير أيضاً، ففي صباح غدٍ، وقبل أن تشرق الشمس، ستؤخذ أجسادنا بعيداً، إلى الأبد».

مشاركة :