تمثل طرق القوافل والرحلات نمطاً مميزاً من أنماط التواصل مع الآخر تختلط فيها الثقافة بالاقتصاد والسياسة. ويمكن النظر إلى (طريق الحرير) بوصفه الطريق الأبرز في تاريخ آسيا خاصة مع امتدادات أخرى له خارجها، وقد حمل ثقافات متنوعة من الصين إلى العرب والروس والفرس وغيرهم، واشترك الجميع في إنتاج ثقافته ومفرداته. وأعتقد أن طريق الحاج العراقي والبصري - أنموذجاً - هو من الطرق الرفيعة المستوى، حيث كانت أصوله دينية صرفة تتصل بالحج وأداء هذه العبادة المقدسة، ولكن ظروف الزمن القديم تفرض على سالكيه والمقيمين على ضفافه أن يتحول هذا الطريق إلى مجموعة من الحيوات التي يشترك الإنسان والمكان والبيئة والزمان في إنتاجها، وذلك من خلال المرور بالمدن والأقاليم والاختلاط بالشعوب والحاجة إلى التبادلات التجارية من أجل استمرار مسيرة هذا الحاج حتى يصل إلى مقصوده، ومن هنا تشتعل الثقافة، حيث تتعرض الرؤى والأفكار والمفاهيم إلى صدمات متعددة من خلال الحوار مع المختلف المتنوع طوال مدة هذه الرحلة. وبعيداً عن مكة المكرمة والمدينة المنورة بوصفهما المكان المقدس الأسمى واللحظة الأعلى في انصهار عدة ثقافات فيهما، فإن طرق الحج المتعددة تركت آثاراً بارزة في عدة مدن في الجزيرة العربية، واخترقت هذه الطرق مختلف المدن السعودية، وتمازج الناس فيها ومعها مما يفترض أهمية النهوض الفردي والمؤسساتي في سبيل استجلاء الأثر الحقيقي لهذه الطرق. ويمكن للباحث أن يتتبع هذه الآثار من خلال الروايات الشفهية، والرحلات المدونة، والكتب التاريخية، والنقوش، والقصائد المتعددة، وغير ذلك من مرويات ومدونات وآثار، وسنكتشف فيها حركة الثقافة وتنقلاتها المتعددة بين هذه الديار والثقافات المتعددة، ونفسر من خلالها نمو المفاهيم ومراحل تحولاتها، وسنجد - كما هو معلوم - إجابات دقيقة عن أسباب نشوء بعض التقاليد والعادات والمواقف والقصص في عمق نجد أو أطراق الشمال أو زوايا من المنطقة الغربية أو الشرقية أو الجنوبية، وهي تنتمي إلى الشام أو مصر أو اليمن أو إيران أو العراق أو غير ذلك. وقد أحسنت مجلة (العربي) بقيادة أ. د. ليلى السبعان حين نفذت ملتقاها السنوي لدراسة طريق الحرير، ونجحت من خلال الجلسات العلمية المميزة، والحضور النوعي في إعادة الوهج إلى هذا الطريق وآثاره ومفرداته. ولعل المؤمل من مؤسساتنا العلمية والإعلامية الأخرى أن تعيد هذا التوهج للطرق التي أثَّرت في ثقافتنا العربية والإسلامية والمحلية، ومنها: طريق الحاج، وذلك بعقد المؤتمرات النوعية، وإصدار الكتب، واستكمال تسجيل الرسائل العلمية، والتتبع البحثي الدقيق لهذه الطرق، ورصد مواضعها، وتوجيه الباحثين الجدد لتخصيص منازل الحاج المتنوعة بالدراسات التفصيلية التي تتعمق في دراسة هذه المنازل من النواحي المتنوعة. إن جزءاً رئيساً من ثقافتنا المحلية والعربية والإسلامية إنما يتكون ويبرز من خلال ما قاله العابرون، وليس بالضرورة من خلال ما أنتجه المقيمون، ومن هنا تتأكد الحاجة العلمية إلى فرز ما سجله أصحاب هذه الطرق الاقتصادية والسياحية والدينية في عبورهم لمناطقنا العربية والإسلامية. وأما التاريخ الذهبي لمكة المكرمة والمدينة المنورة، فإنه لا ينحصر في داخلهما فقط، وإنما يتكون على هذا النحو، كما يتكون من خلال الإطار المعرفي الكبير في ذاكرة المسلمين جميعاً، وهو ما تدعو إليه هذه المقالة، وأعتقد أن الجهات المعنية، وخاصة مركز دراسات مكة المكرمة والمدينة المنورة، معنيّة بهذا، ولعل الواجب العلمي والثقافي يُحفّز الأقسام المتخصصة في الجامعات أن تتعاون مع الإعلام والأندية الأدبية والجمعيات العلمية والثقافية في إعادة اكتشاف هذه الطرق وآثارها المتنوعة.
مشاركة :