روايات العراقي مرتضى كزار بسخرية لاذعة من حرب طويلة مست كل تفاصيل الحياة اليومية في بلده، وهنا يظل التساؤل مهمّا هل في هذا الدمار ما هو غير مألوف وتسعى الرواية إلى توثيقه؟ نعم، ففي رواياته مثل “السيد أصغر أكبر” و”طائفتي الجميلة”، قدم مرتضى كزار عبر شخصيات وأمكنة متخيلة الجانب الهامشي من هذا الدمار، تاركا للقارئ حرية المقارنة بين الواقع والمتخيل. وسعى كزار إلى تأسيس طقوس كتابية خاصة به لكنه لم يفلح، حيث يقول “حاولت أن أؤسس لي طقوسا، لأن الطقوس هي نوع من التنظيم أيضا، نوع من التعرف على الكاتب بداخلك، كيف ومتى يكتب؟، متى يكتب بطريقة جيدة ومتى يخفق أمام نفسه؟، لكنني لم أفلح في التعرف على طقوسي، ولا أعتز بذلك أبدا. ينبغي أن نلاحظ كذلك أن الطقوس والتعاليم والنصائح والسير الكتابية، هي مائدة كذب شهية يحب الروائيون الجلوس عليها. يحبون تأليف الأكاذيب عن طقوسهم ويومياتهم مع الكتابة ومراحل سير عملهم، هناك أطنان هائلة من الترهات والخدع في ببليوغرافيا الكتّاب”. اللغة تفكر رواية “طائفتي الجميلة” هي رد على التعصّب الطائفي في بلد مرتضى كزار من خلال الطبيب البيطري أكثم الذي قرر تأسيس طائفة جديدة “مملكة النحل”، تظهر السخرية في الرواية وكأنها جزء من الحياة العراقية. ويقول ضيفنا “السخرية على فنتازيتها ومجافاتها للدقة هي درجة من درجات فهم الواقع، فلا أزعم أن ما كتبته كان ساخرا، لكن هذا ما وجده البعض في الرواية، ونحن لا نستطيع التحكم في الصورة التي تظهر بها نصوصنا للقرّاء، ولا ندفعهم نحو رؤية النص بحسب وجهة نظرنا، هم أحرار في التلقي والتمثيل والتأويل”. رد على التعصّب الطائفي ويتابع “يسخر الإنسان من الفضاء العام بكل أطرافه وتفاصيله حينما يجد نفسه غير مشارك في ما يحدث مع أن كل ما يحدث يؤثر فيه ويجلب له الضرر والتشريد والإهانة والقمع ويسلبه حق الوجود، وقد يسخر من نفسه أيضا إذا وجدها منقادة تماما لهذه المهيمنات السياسية والاجتماعية، وهي فاقدة للإرادة ومتوقفة عن التعبير. وأراد أكثم أن يمشي في ظل الحائط لكن ظلال الحيطان مسحورة ومشاغبة وقاتلة أيضا. فيتهكم ويسمع وحده قهقهة جبارة كخلفية صوتية وراء كل ما حدث، لأنه يشعر بأن الضحك هو حيوان ضخم يظهر في أعتى لحظات الجدية العقائدية، ليجابه حيوان الطوائف -الجاد جدا والمحمّل بالدراما التأريخية- حيوان التهكم المنتظر”. ويعد المكان في روايات كزار المحور الرئيسي الذي تدور حوله جل الشخصيات تقريبا، فهذا المكان ليس متخيّل “النجف” أو “البصرة”. ويعلق الروائي “المدن كائنات حية تمرض وتتعافى وتموت وتهاجر أيضا، ما تناولته من المدن هي حواضر كبيرة، تأريخية وضاربة في أصالتها وطاقتها الثقافية، البصرة والكوفة وبغداد هذه هي المدن التي عشت فيها وكتبت عنها، ولا أجدني متورطا في تلك العلاقة البدائية التي تربط الإنسان بمسقط رأسه، ولا أنتمي إلى هؤلاء الكتّاب الشعبويين الذين يحدقون في الدنيا من زقاقهم الضيق ويرونه كصندوق العالم ومركز الكون. تجمعني علاقة حميمة بأمكنة متخيلة مصنعّة لأغراض روائية، فهي أمكنة مؤقتة وليست باقية ولا مستقرة”. وبسؤالنا للكاتب إن كان يمكن للغة أن تطاوعه وهو يكتب عن الدمار والحرب والسيارات المفخخة والخوف وغير ذلك من مظاهر الخراب العراقي؟، يرى ضيفنا أنه “يمكننا أن نتعرف على ما حدث من خلال اللغة ونحن نكتب ونروي ونفكر، فاللغة لا تساعد فحسب وإنما تقوم بدور أكبر، وبرأيه هي تفكر معنا وتكتشف وتقول نيابة عنا، الكلمات ليست حصانا تعتليه المعاني وليست ساعية بريد، إنها جزء من المنطق والتأريخ”. الكتابة محاكاة رواية “السيد أصغر أكبر” لم تكتب تاريخ النجف والنسّابة والعوانس الثلاث، بل انطلقت من حدث مهمل وهو “تزوير الأنساب”، هو سؤال طرحته “العرب” على الكاتب وعمّا إذا كانت الرواية اليوم غير مطالبة بتحقيق متعة للقارئ وأن تضيف معرفة حديثة ومتجددة؟، فيوضح ضيفنا أن “الروايات أجناس وأصناف وفئات، وهذا ما يجعل عملية الإمتاع تتفاوت بين أجناس الروايات، وما يكون ممتعا هنا قد يكون جلسة عذاب هناك. وما نجده مملاّ هو في الواقع غاية المنى بالنسبة إلى قارئ آخر”. ويضيف “لكن الرواية فن من فنون الفرجة النصيّة ولا يمكن حذف شرط الإمتاع المتضمن في أصل نشأتها وازدهارها”. حيوات فاعلة في مرحلة إنسانية وفي روايات مرتضى كزار هناك حيوات فاعلة في مرحلة إنسانية مليئة بالتحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ويرى كزار من ناحيته أن ما يحتسب للرواية كجنس أدبي هو قدرتها على الاقتراب أكثر من التاريخ والعلوم الاجتماعية، وقد تؤدي دور الشاهد والمثال على التحولات والبنى الجديدة في حياتنا، فالرواية، برأيه، تقترب جدا من الكتل التاريخية التي تنتج هذه البنى وتفسرها وتختزلها في شخصيات من لحم ودم وأسماء وصفات ومواقف. ويضيف “بشكل عام فن الرواية تطور طورا بالغا لحظة تورطه في مراقبة تحولات الشعوب والمجتمعات بعد الحروب والحوادث الكبيرة، وفي حالتنا العراقية تكاد النصوص الروائية أن تربط جديتها وجودتها بشدة امتزاجها بالحياة المعاصرة والتغيرات السياسية. أعني، أن نسبة قليلة جدا من النصوص نفضت يدها من حدث عام 2003 مثلا، فالكثرة الكاثرة منها مهمومة بتلك اللحظة وما يتوالد منها”. وعن شخصيات الروائي “المحض الخيال”، يقول ضيفنا “علميا، أنا أثق في العلم أكثر من الأدب، الأدب ليس محلا للثقة والقناعات، أقول علميا: لا يمكن أن ينتج الكاتب شخصياته من خيال محض، يمكنه أن يركبها على طريقة الكيميائيين القدامى أو ينسخها من الواقع. الشخصيات الروائية هي شخصيات ممسوخة، مسها عذاب المؤلف ولحقت بها تشوهات الكتابة، تفقد الشخصيات المكتوبة الكثير من ملامحها وهي تتنقل بين الحياة الحقيقية والكتابة المتخيلة، مثلما يحدث للإلكترونيات التي تفقد قوتها خلال العبور من جسم إلى آخر. نحن كقرّاء، والكتّاب قرّاء بالدرجة الأساس، نحب تلك النقائص التي تخلفها الكتابة على الشخصيات الحقيقية، نحب ذلك التلفيق الفني المحترف الذي يصنعه الكتّاب في الروايات، نحب التوهم ونتابع بمتعة لحظة فقدان الإلكترونات السردية لقوتها. فالكتابة طريقة محاكاة، والجمهور يهمه عندما يحاكي المؤدي دورا ما، يهمه أن يجري مقارنات تلقائية بين النموذج المحاكى والمحاكي، يهمه أن يستمتع بدرجة الخطأ والانحراف عن الواقع”. ويضيف “مع ذلك، فالكتابة الروائية ليست نسخة تحاول مضاهاة الواقع، والشخصيات الروائية لا تقلّد زميلتها الحقيقية بالضرورة. الأدب كله ليس تسجيلا أو تقليدا أو محاولة لبلوغ الواقع وتمثيله بدقة. يعيش الأدب على نسبة الخطأ في التقليد ودرجة المحاكاة، لذلك قد تسقط شخصية حقيقية بكاملها في كتابة رواية، لكنها عندئذ لن تكون كما كانت، تصطبغ بطلاء السرد وتتحول، تنمسخ أو تتجلى أو تعيش على الأعراف!”. :: اقرأ أيضاً الروائي يفاوض التاريخ والمؤرخ يبحث فيه قصائد صوفية مرهفة ومعذبة وآمال مؤجلة لقاء نقدي في المغرب عن أدب المناجم حملة فريزر تركيبة غنية بالكوميديا بأداء باهت
مشاركة :