الكتاب... صانع البهجة

  • 11/2/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

محمد وردي على مدى سيرة الكتاب المعروفة في التاريخ الإنساني، قيل الكثير حوله؛ سواء بشأن غايته ومبرر صناعته، أو بخصوص قيمته وأهمية دوره في صناعة الوعي، فمن رافض للكتاب جملة وتفصيلاً؛ باعتباره يقدم الوهم، بأنك تعرف وفي الحقيقة أنت لا تعرف شيئاً على أحسن حال، إلى مؤيد نسبي للكتاب؛ لأنه يساعد على التذكر، عندما تنفع الذكرى، إلى مؤازر للكتاب، كونه يحفظ المعرفة من الضياع، إلى داعم للكتاب، باعتباره خلاصة المعرفة الإنسانية، إلى مراهن على الكتاب، كونه وسيلة لاكتشاف الذات أو الأنا، ومن ثم مصالحتها مع الأشياء من حولها؛ كخطوة لا بـد منها؛ لصناعة الفرح والبهجة، دين وديدن الإنسان، في مسيرة الحياة، على طريق عمارة الوجود بالخير والجمال. ومع ذلك فالكتاب يعني الكتابة، والكتابة تعني عملية القراءة، والقراءة تعني القارئ، وهي علاقة جدلية، تبدو للوهلة الأولى، وكأنها سهلة وسلسة، ولكنها في الواقع معقدة ومذهلة، فهذه العلاقة بقدر ما هي متشابكة بالرؤية، إلا أنها متمايزة ومفارقة بالمفاهيم. ذلك لأن النظر إلى إحدى هذه المعادلات لا يستقيم دون النظر إلى الأخرى، فهي علاقة طردية وعكسية في الوقت عينه، هذا بافتراض أن الكاتب خلاق، والكتابة إبداع، والقراءة وعي جديد. كما هي حال أي جديد، فما إن بدأت صناعة الكتاب؛ حتى تفاوتت الآراء بشأنه، فكان له مناصرون ومعارضون في البداية، ولكن سرعان ما مالت كفة الميزان ورجحت في النهاية لصالحه؛ باعتباره خلاصة المعرفة وذاكرة الوعي الإنساني الحية. ومن أوائل معارضيه في التاريخ المعروف، كان الحكيم سقراط، فهو مناصر الذاكرة، ومَلكَة الحفظ وسطوة التلقين المباشر. لذلك كان يهوى لقب المعلم، ويستهويه فن الخطابة في الساحات العامة. يذكر أفلاطون في المحاورات، برد غير مباشر على سقراط بما معناه: أن فيدروس قصد سقراط؛ كي يقرأ عليه خطبة لوسياس حول التزامات العاشق، فقال له سقراط: لن أسمح لك أن تجرب مواهبك في الخطابة عليّ؛ عندما يكون لوسياس نفسه موجوداً في معطفك. أي أن سقراط أراد أن يقول: عندما أود أن أكون مستمعاً أو تلميذاً، أفضل السماع أو التلمذة على يد المعلم نفسه، وليس سماعه عبر وسيط، أو قراءته من خلال كتاب. وبما أن الحوارات في ذلك الوقت، كانت تتناول في المقام الأول طبيعة الحب، وتستقر في النهاية عند صناعة الكتاب، حسبما يقول ألبرتو مانغويل في كتاب تاريخ القراءة، قصّ سقراط على فيدروس الرواية التالية: في أحد الأيام قام الإله المصري ثوث، مخترع النرد والشطرنج والأرقام وعلوم الهندسة والفلك والكتابة؛ بزيارة الملك، وقدّم له هذه الاختراعات؛ كي يقدمها بدوره إلى أبناء الشعب، فراح الملك يناقش منافع ومضار كل واحدة من هذه العطايا الإلهية، وكان ثوث يقدم اختراعاته، ويكشف مدى الحاجة إليها؛ حتى وصل إلى الكتابة فقال: إن هذا فرع من التعلم سيحسن ذاكرة شعبك؛ إن اختراعي وصفة تخدم الذاكرة والحكمة، إلا أن الملك لم يقتنع بهذا الأمر على الإطلاق، فقال: عندما يحصل الناس على هذه المقدرات، فإنها ستزرع النسيان في قلوبهم، وسيتوقفون عن تدريب ذاكراتهم؛ لأنهم سيعتمدون على الأشياء المكتوبة، ولن يعودوا قادرين على استحضار ما في ذاكرتهم من أمور. ويستمر سقراط بالقول: وهذا ما ستساعد عليه وسيلتكم هذه، إن ما اخترعته ليس وصفة للذاكرة وإنما للتذكر، لذا فإن ما تقدمه لتلاميذك ليس الحقيقة الناصعة، وإنما أحد مظاهرها، إذ إنك عندما تحدّثهم عن الكثير من الأمور؛ دون أن تعلّمهم في الواقع أي شيء، فإنك ستوقظ في أنفسهم الانطباع بأنهم يعرفون الكثير، في حين أنهم لا يعرفون أي شيء على أحسن حال، ونظراً لأنهم سيتشبعون بالتصورات لا بالحقيقة فإنهم سيصبحون عبئاً على غيرهم من الناس. ويوضح سقراط مغزى حكايته، فيقول: هل تعرف يا فيدروس أن العجيب في الكتابة هو أنها تشبه الرسم إلى حد كبير، إن عمل الرسام يطالعنا كما لو أن اللوحات حية تنطق، إلا أنك عندما تستجوبها تحافظ على صمت أزلي، ينطبق هذا على الكلمات المكتوبة، حيث تبدو أنها تتحدث إليك، كما لو أنها ذكية للغاية، إلا أنك عندما تسألها والرغبة تحدوك في معرفة المزيد، فإنها تستمر في ترديد الشيء عينه دون انقطاع، ما يعني أن النص المقروء أو المكتوب - بالنسبة إلى سقراط -، لم يكن، سوى كلمات تتطابق فيها العلامات والمعاني بدقة متناهية، أما التفسيرات والتأويلات والملاحظات والتعليقات والتداعيات والتفنيدات والمعاني الرمزية والمجازية، فلا تنطلق جميعها من النص عينه، وإنما من القارئ. لذلك اعتبر سقراط أن النص مثل لوحة مرسومة، لا تذكر سوى عبارة واحدة، قمر أثينا، فالقارئ هو مَنْ يضفي عليه وجهاً عاجياً كاملاً، وسماء داكنة، وأراض من الخرائب القديمة، تمشى عليها في يوم ما. في نهاية القرن الثالث عشر عارض ريتشارد دو فورنيفال في مقدمة كتابه وحشية الحب جدل سقراط، وقال: إن الجنس البشري يرغب بالمعرفة إلا أنه مضطر، نتيجة العمر القصير الذي يحياه الإنسان، إلى الاستعانة بالمعرفة التي جمعها الآخرون من أجل زيادة ثراء معارفه، وهذا الأمر ليس ممكناً من دون الكتاب؛ لأن مخزون الذاكرة يضيع مع موت أصحابها، ولكنه يرى أيضاً أن الكتاب ليس ممكناً (بالمعنى الإبداعي) من دون ذاكرة، ولهذا السبب منح الله النفس البشرية موهبة الذاكرة، التي نتوصل إليها بواسطة حاستي النظر والسمع، ذلك لأن الطريق إلى النظر تتكون من الرسومات أو الصور، والطريق إلى السمع من كلمات السر أو الكلمات العادية، غير أن الصور والكلمات لا تدخل إلى عقل القارئ دون تبدلات، بل يُعاد خلقها من جديد في العالم الداخلي للقارئ، وتتشكل من الانطباعات التي خزنتها حاستا السمع والبصر، وأودعتها في الكتاب، بمعنى أن الكتاب يخدم الذاكرة، ويحسن أداءها في حفظ معارف السابقين. وهو بذلك يؤيد الإله المصري ثوث. وبهذا المعنى يقول جوزييه ساراماغو: الكتابة هي دوماً ترجمة، حتى عندما نستعمل لغتنا الخاصة، فنحن ننقل ما نراه ونشعر به، بواسطة شيفرة تقليدية متعارف عليها من الإشارات، أي الكتابة، ونأمل في أن يسمح لها الظرف وتقلبات الاتصال بالوصول إلى عقل القارئ، إذا لم يكن سليماً، بوصفها التجربة الكاملة التي قصدنا أن ننقلها - حتماً تنقل كلماتنا مجرد نتف من الواقع الذي تغذت عليه تجربتنا - عندئذ مع ظلٍّ على الأقل لما نعرف في أعماق روحنا أنه غير قابل للترجمة: العاطفة النقية للقاء، دهشة الاكتشاف، تلك اللحظة الهائمة من الصمت، قبل أن تُنتج الكلمة، ستبقى في الذاكرة مثل أضغاث حلم لم يمحه الزمن بشكل كامل. من جانبه يحيل الباحث الأمريكي مرلين سي وتروك الكتاب إلى عملية القراءة، فيقول: إننا لا نقرأ الكتاب بالمعنى الحرفي للكلمات، بل إننا نقوم بإنشاء معنى له. معتبراً أن القارئ في هذه العملية المعقدة، يعالج النص ويقوم بخلق صور وتحولات شفاهية من أجل إدراك معناه. والمثير في الأمر، هو أن القارئ لا ينشئ المعنى أثناء القراءة؛ إلا عند إقامة علاقات بين معارفه وذكرياته وخبراته، وبين الجمل والعبارات والمقاطع المكتوبة. على مستوى آخر من جدلية الكتاب والكتابة، تعتبر الناقدة الأمريكية جوليا كريستيفا، أن كل نص هو امتصاص أو تحويل لنصوص أخرى، بمعنى أن النص يتشكل من خلال عملية إنتاجية من نصوص أخرى، ويتفق معها رولان بارت حيث يقول: إن كل نص هو نسيج من الاقتباسات والمرجعيات والأصداء، وهذه لغات ثقافية قديمة وحديثة، معتبراً أن النص هو جيولوجيا كتابات، لأن الأنا لدى القارئ، هي أيضاً مجموعة من النصوص، غير محددة وغير معروفة الأصول. كذلك يرى مارك أنجينو أن كل نص يتعايش بطريقة من الطرق مع نصوص أخرى، وبذا يصبح نصاً في نص، ما يعني أن الكلمة تنتمي إلى الجميع؛ لكونها تؤشر على فكرة مبذولة في كل دراسة ثقافية، وهذا ما يجعل أمبرتو إيكو يطالب القارئ بقراءة ما حول أو فوق اللغة، للوقوف على العلامات والشيفرات والإشارات والرموز والنصوص الغائبة أو المغيّبة، ثم تناصات الأفكار من المقروء الثقافي، الذي يتضمنه النص أو يوحي به. وهو ما سماهالمشي الاستنباطي أي المشي خارج النص؛ لاستنباط شيفراته وتناصاته وترميزاته. إذن، القراءة ليست عملية أوتوماتيكية لفهم النص، وإنما هي عملية استنساخ معقدة ومحيرة ومذهلة، وبخاصة لكونها تحدث بصورة متشابهة عند جميع الناس، إلا أنها تتميز بخصوصية عالية، تختلف من إنسان إلى آخر، شأنها شأن التفكير، ذلك لأن القراءة ليست ظاهرة خصوصية في البنية أو المِزاج، وهي ليست فوضوية، كما أنها ليست متناغمة كلياً ومتراصة، بحيث يكون فيها معنى واحد هو الصحيح، وإنما هي عملية إبداعية خلاقة، تعبر عن محاولة القارئ المنتظمة؛ لإنشاء وتكوين معنى واحد أو أكثر للنص، ضمن أحكام اللغة وقواعدها، حسب تعبير مانغويل. ولكن تحليل هذه العملية المعقدة، لا يزال عصياً على الفهم، كما يقول الباحث الأمريكي إي.بي.هوي: إن التوصل إلى تحليل كامل، لما نفعله عندما نقرأ؛ سيكون غاية المنى؛ بالنسبة إلى البحوث السيكولوجية، لأن ذلك سيعني وصف الكثير من الأداء المعقد للعقل البشري، ما يعني أننا لا نزال بعيدين جداً عن إعطاء الجواب، على الرغم من أننا لا نملك تفسيراً مرضياً لما نفعله. طبعاً، في سياق هذه العلاقة الجدلية بين الكتاب والكتابة والقراءة، يحضر كافكا بشكل مغاير، فهو لا يكتب عن أهمية الكتاب وغايته أو مبرر صناعته، بقدر ما يميز بين كتاب وآخر على أساس المحتوى أو المكنونات الإبداعية، فهو انتقائي، بشكل قطعي لا يقبل الجدل، حينما كتب عام 1904 رداً على صديقه أوسكار بولاك يقول: أنا أظن، على القارئ ألا يقرأ إلا تلك الكتب التي تعضّه وتوخزه، إذا كان الكتاب الذي نقرأه لا يوقظنا بخبطة على جمجمتنا فلماذا نقرأ الكتاب إذاً؟.. كي يجعلنا سعداء كما كتبت؟. يا إلهي كنا سنصبح سعداء حتى لو لم تكن عندنا كتب، والكتب التي تجعلنا سعداء يمكن عند الحاجة أن نكتبها، إننا نحتاج إلى الكتب التي تنزل علينا كالبليّة التي تؤلمنا، كموت من نحبه أكثر مما نحب أنفسنا، التي تجعلنا نشعر وكأننا قد طردنا إلى الغابات بعيداً عن الناس، مثل الانتحار، على الكتاب أن يكون كالفأس التي تهشم البحر المتجمد في داخلنا، هذا ما أظنه. بكل الأحوال، ومهما قيل أو سيقال في المستقبل، فالجميع يتفقون على حقيقة أن الكتاب والكتابة والقراءة تغني الحاضر، وتنعش الماضي، حيث تقوم الذاكرة بحفظ هذه الصور إلى المستقبل، ولكن الكتاب هو الذي يحفظ الذكريات ويبقى حاملها، وليس القارئ، فالكتاب هو خزانة الذاكرة التي لا تضيع، وربما هو خلاصة المعرفة، لأن الكاتب عندما يكتب الكتاب - بالمعنى الإبداعي -، يُفترض أن يختزل كل ما سبقه إليه الأقدمون من معارف.

مشاركة :