أواصل الكتابة حول الفساد، مع التأكيد على أن الفكرة هنا هي مجرد إلقاء الضوء على موضوع يستحق دراسات وتشريعات كبرى. كتأكيد عمق تأثير الفساد تشير المصادر إلى زيادة نسبة الوفيات بمقدار الثلث في الدول التي تصنف بأنها ضمن الأعلى فساداً مقارنة بالدول الأقل فساداً. كما أنه يتوقّع أن 5 % من الاقتصاد العالمي مصدره الفساد، ويقدّر حجم الرشاوى العالمية - والرشوة مجرد أحد مصادر الفساد- بحوالي تريليون دولار سنوياً، يدفعها الناس العاديون. بعض مرتكبي الفساد - وهذا جزء من الثقافة العامة- لا يرى تلك الآثار أو لا يدركها أو يعتقد أن تصرفه مجرد حالة فردية يجب أن لا تتحول إلى موضوع كبير. ويعمّق هذا الشعور أن فضايح الفساد التي تطال بعض الأسماء المعروفة في مجتمعها تتحوّل إلى مجرد مادة تسلية إعلامية، تشبه الزوبعة، وبعد ذلك ينساها الناس. وفي نفس الوقت ييقى المسؤول أو التاجر أو الشخصية الكبيرة الفاسدة أو المفسدة يحظى بالتقدير ضمن مجتمعه الصغير وربما الكبير ويواصل مكاسبه، ولا يشعر بوخز الضمير، مما يشجع الآخرين على ارتكاب فعل مماثل. عندما نتحدث عن أسباب الفساد فهي عديدة، ولعل أهم مسببات انتشار الفساد في الدول النامية هو عدم قدرتها على تشخيص الأسباب أو عدم القدرة على إعلانها ونقاشها ومعالجتها بشكل حاسم و شفاف. من الأسباب البارزة هو تركيبة الأنظمة الإدارية والمالية والاجتماعية والسياسية التي بنيت وفق تركيبة لا تأبه كثيراً بقضية تعارض المصالح والفصل بين الأدوار المختلفة التشريعية والتنفيذية والرقابية. أيضاً من الأسباب عدم دقة الأنظمة وآليات تطبيقها وبالتالي وجود الثغرات التي يمكن استغلالها بسهولة من قبل المتجاوزين والفاسدين. تلك الأسباب التي نحمّلها للحكومات والوزارات والأنظمة، لكن هناك أسباب أخرى أكثر عمقاً تتمثَّل في الثقافة ووجود القيم التي يتشارك الناس فيها، فجميعنا نغضب من التجاوز في التوظيف لغير الأكفاء، لكن الحقيقة أن الواسطة والشفاعة وخدمة ابن العائلة والقبيلة من مبدأ الأقربين أولى بالمعروف تعتبر ثقافة سائدة ومقدرة في مجتمعنا. في هذه الحالة لدينا مشكلة قيمية أكثر منها تنظيمية. نحن لدينا أعراف قبلية تنتقّل معنا في أعمالنا الإدارية فيتحول المنصب لدينا من إداري تحكمه الأنظمة إلى إداري يفكر بعقلية شيخ القبيلة الذي لا يرد أن يقاطع كلامه أحد، ولا يريد أن يناقشه أحد، ويراه من حسن الإدارة فرض ما يراه بغض النظر عن تعمقه واستيعابه لكافة التفاصيل... موضوع القيم الثقافية والاجتماعية يحتاج لعمل كبير على مستوى التعليم والفعل الثقافي والإعلامي وعلى مستوى الأنظمة وعلى مستوى إيجاد المسؤول القدوة وغير ذلك. تغيير القيم أو غرس قيم إيجابية جديدة يعتبر عملاً حضارياً تراكمياً على مدى أجيال، وبالتأكيد يحتاج لمساحة أكبر من مساحة هذا المقال.
مشاركة :