جناية شعبية الرواية.. على الرواية | واسيني الأعرج

  • 11/3/2016
  • 00:00
  • 30
  • 0
  • 0
news-picture

نعيش اليوم زمن الرواية بامتياز، تمامًا كما توقَّعه الناقد والمفكر «جابر عصفور»، قبل سنوات، وتراجعًا واضحًا لكل الأجناس الأخرى التي كانت إلى وقتٍ قريب سيدة الساحة الثقافية كالشعر، والقصة القصيرة، والدراسة الأكاديمية. وهذا أمر يحتاج إلى اهتمام حقيقي من قِبَل النقاد المتفتحين، لفهم الآلية التي أدت إلى هذا الشيوع غير المسبوق، بغض النظر عن قيمة النصوص. واضح، أن الأمر إذا بقي على ما هو عليه، وبهذا الشكل اللامتوازن، ستنتفي على إثره الأشكال الأخرى. أينما ولّى القارئ وجهه، في المكتبات والمعارض، فثمة روايات تنتظره، تخترق بصره. حتى الناشر الخاضع في عمومه لنظامي العرض والطلب، تراجع عن رهاناته الثقاقية الحداثية، المسهمة في نشر المعارف في تعدديتها، كالأبحاث الأكاديمية والدراسات والأنواع الأدبية الأخرى كالشعر والقصة والمسرح، أصبح رهين الطلب. والطلب اليوم تحكمه الرواية، إذ تجتاح هذه الأخيرة كل القطاعات الثقافية دون استثناء، لدرجة أن القارئ نفسه لم يعد قارئًا في حدود الاختصاص. ويظهر ذلك في معارض الكتب، أثناء التوقيعات، إذ نكتشف أنه يأتي من قطاعات مختلفة، من المدارس، والثانويات، والجامعات، والمؤسسات المختلفة، ومن تخصصات عديدة، كالأدب، والطب، والصيدلة، الهندسة، وغيرها، لدرجة أن ما كان شاذًا من ناحية المقروئية، أصبح هو القاعدة. كل الناس يقرؤون الرواية. الكبار وحتى الصغار لهم أشواقهم الروائية. كم نحن في حاجة ماسة للكتّاب الذين يتوجهون بخطاباتهم المختلفة إلى الطفل والأحداث، من خلال جنس الرواية الذي سكنهم اليوم بقوة وأصبح يتحكم في خياراتهم. منطقيًا، يُفترض أن يقود هذا الاهتمام الروائي إلى إعطاء قيمة لهذا النوع من ناحية التأمُّل والتفكير لفهم الظاهرة والسيطرة عليها أيضًا حتى لا يتمّ ابتذال الأشياء. لم يعد محراب الرواية مقدسًا، ولا مخيفًا أبدًا. الكثير ممن يتعاطونه يدخلونه اليوم، في الكثير من الأحيان، بلا ضوابط وبدون معرفة مسبقة للجنس، وكأنه مساحة للكلام والقول في مجتمع محكوم بالصمت والرقيب. الوسائط الاجتماعية سهّلت انتشار هذا النوع من الكتابة. الكثير من الشعراء المعروفين عربيًا، تخلوا أيضًا عن تجارب عشرات السنين واختاروا الكتابة الروائية. بل إن بعض النقاد لم يتفادوا غوايات الرواية. يحتاج الأمر إلى عمل إحصائي دقيق يضع المسألة في نصابها الطبيعي بالأرقام التي تشهد أن تحولًا كبيرًا ذهب نحو الرواية. ولا ندري ما إذا كان ذلك في صالح هذا الجنس أم لا؟ قد تجني شعبية الرواية على نظام الجنس الذي استقر عبر القرون المتتالية على شكل جوهري، على الرغم من تعددية تفاصيله. نقرأ أحيانا نصوصًا لا تحمل من الرواية إلا العلامة التجنيسية: رواية. الباقي عبارة عن إفضىاءات ذاتية تبحت عن شكل يستوعبها. لا أحد يمكنه أن يسرق حق الكتابة من أحد، لكن السؤال الكبير: إلى أين نحن ذاهبون؟ هل نحو فكرة التراكم الكمي الذي سيؤدي إلى التراكم الكيفي؟ لا شيء يمنع من التفكير في ذلك. علينا أن نثق في نظام الأشياء التي تغربل نفسها بنفسها؟ أم أنه علينا أن ندق ناقوس الخطر خوفًا من تسيب قد يأخذ في أثره الغث والسمين؟ لكن من أين جاء هذا كله؟ هل نمت الأشياء في سكينة حتى انفجرت بقوة؟ معارض الكتاب العربية توفر مساحة للتأمل. كل دور النشر تعرض في الواجهة جديدها الروائي، وتضع في الخلفية ما أصدرته من أعمال نقدية وشعرية وغيرها، التي لم تعد مطلوبة بالشكل الكافي. قد يكون للجوائز بعض المسؤولية في هذا. فهي عامل تشجيع تنافسي مهم. كل الناس يريدون التفرد واختيار مواقعهم الأدبية عربيًا، من خلال المشاركة في الجوائز؟ يكفي أن نعرف مثلا أن المشاركات في جائزة كاتارا في دورتها الثانية، هذه السنة، حوالى 1007 نصوص، بين المنشور وغير المنشور. رقم خيالي ولا شك. لكن هل مبرر الجوائز كاف؟ ألا يرجع ذلك أيضًا إلى الانفجار الذي حدث في السنوات القليلة الماضية، في وسائل التواصل الاجتماعي التي سهلت فعل الكتابة وانتشاره، بل والحكم عليه، لا بالقيمة النقدية، ولكن بعدد اللايكات التي يجنيها نص من النصوص، وكأن هذه الأخيرة عوضت النقد الأدبي وحلت محله في التقييم. ربما كان أيضًا تخلي النقد عن مهام المتابعة والنقد، وكأن النقد الإعلامي والأكاديمي خرجا من دائرة المنافسة تحت سطوة النقد «اللايكي»؟ أصبح النقد يسبح في أرض يباب لم يعد يعرفها، تصعد فيها بوصات الرواية، وتنزل كما يراد لها في سوق الفيسبوك. وهذا يؤدي برواد هذه الوسائط إلى تدوين نصوصهم ونشرها تحت غوايات اللايكات، وينتقلون بها من الافتراضي إلى الورقي. ليس هذا سخرية، ولكنه حقيقة يومية مرئية من خلال هذا الكم الروائي المنشور.

مشاركة :