منذ سقطت بغداد في زمن المستعصم بالله 656 هـ 1258م، آخر الخلفاء العباسيين، لم يشهد العراق حاكماً عربياً يقود زمامه، بل بقي العراق تتقاذفه الأمواج، فحيناً يخضع العراق لفارس، وحيناً يتبع الإمبراطورية العثمانية.. سبعة قرون بين نفوذ الدولتين سجالاً، وهكذا كانت ألوية العراق، بما فيها البصرة، تحت حكم فارس والأتراك، وذلك زُهاء أربعة قرون، انتهاءً بحكم المماليك لمدة نصف قرن، وأشهرهم داود باشا، الذي ولد في تفليس عاصمة الجمهورية الكرجية السوفيتية، كان نصرانياً وجيء به إلى بغداد، وبيع في أسواق النخاسة أكثر من مرة حتى اعتنق الإسلام، فتحول من خادم إلى شرطي إلى قائد الشرطة إلى أن صار حاكماً على العراق. راودت وجهاء البصرة فكرة الانفصال الإداري عن بغداد، وتطورت إلى رغبة بالانفصال الكلي بتشجيع من حكومة الهند البريطانية. ريدر فسر رصد، في كتابه «البصرة وحلم الجمهورية الخليجية»، أحوال البصرة وما راود أهلها من انفصال ولاية البصرة لتكون مستقلة. بعض وجهاء البصرة عارضوا الحكم العثماني وعدم الوفاق مع الوالي سليمان نظيف، فطالبوا اسطنبول بأن تزيح نظيف عن ولاية البصرة، وعارضوا التجارة البريطانية البحرية في دجلة والفرات، وتأثر الشباب في البصرة بسياسة جمعية الاتحاد والترقي، التي تنادي بتحرر الشعوب والانتماء إلى القومية، والتخلص من التأثيرات الأجنبية، وطالب بعضهم الإنكليز بتحويل البصرة إلى وحدة إدارية، كما هو في لبنان ومصر، وعارض طالب النقيب الغزو البريطاني في 1914، أرسلت بريطانيا قوة لإلقاء القبض على النقيب وإرساله إلى المنفى في الهند، فأحسّ رفاقه الشباب بالفراغ الذي تركه النقيب، ولم تجد حركة الإصلاح في البصرة أي دور جديد تقوم به الحركة من دون طالب النقيب. تذمر أهل البصرة من الفقر، الذي لم يقم الأتراك إلا بزيادة الفقر من الضرائب الجائرة، ولم يسع الإنكليز الى رفع مستوى البصريين المعيشي، بل قاموا بإخماد الحركات الوطنية الساعية الى الإصلاح. هذه أحوال البصريين، وهم الذين تجري من تحتهم منابع النفط والغاز، وتجري المياه العذبة من حولهم، مياه دجلة والفرات، ومياه إيران في نهر كارون، الذي يصب في شط العرب، واستمر الفقر والبؤس إلى هذا اليوم، الذي يواجه الشعب عدم توفير المياه الصالحة والخدمات الأخرى، كالكهرباء وقلة الغذاء. في بداية الحرب العالمية الأولى ضمت بريطانيا مصر وقبرص والبصرة إلى نفوذها الاستعماري في سنة 1914. وجاء الإنكليز بجنود من الهنود للسيطرة على البصرة، وتغلغلت قوى إيرانية، وقبلها العثمانية، التي دامت أكثر من أربعة قرون. عاد طالب النقيب من أَسْره في الهند إلى البصرة في 1920، وكان كالرجل الحاكم على البصرة، وهادن الإنكليز لتخفيف ضغطهم على أهل البصرة. وقامت في سنة 1920 ثورة علماء النجف، التي عمت سائر المحافظات، وجاءت الفرصة للنقيب لكي يعزز حركة التحرير في البصرة، ونشطت المطالبة بانفصال البصرة. ومن جانب آخر، طالبت الزبير بأن تكون إمارة مستقلة. مشروع البصرة الانفصالي كان في عام 1921، وشاعت في البصرة عن قرب تأسيس وشيك لإقامة مملكة عربية مستقلة في كيان يمتد من الخليج إلى الموصل، ويحكم هذه المملكة أمير عربي، وقويت شهرة طالب النقيب ليكون على رأس هذه المملكة، فعاد الإنكليز وقبضوا عليه لنفيه هذه المرة إلى سيلان، بتهمة إثارته القلاقل ومعاداة الإنكليز، وكان منافساً لفيصل لحكم دولة العراق، وليس البصرة فقط، في شهر نيسان تم نفي النقيب، أحد أبرز منافسي فيصل للمرة الثانية. أتى الإنكليز بفيصل في سفينة أبحرت من جدة، والوطنيون في البصرة فضلوا طالب النقيب لكونه وطنياً من أهل العراق. ظهرت أولى بوادر الحركة السياسية الجديدة في البصرة، وتم اجتماع بين برسي كوكس واثنين من كبار التجار في البصرة، وهما أحمد الصانع وعبداللطيف المنديل، في 7 أبريل 1921، وطالب الاثنان بإدارة منفصلة للبصرة، وأشار الاثنان الى أن الاقتصاد القومي من مداخيل النخيل وتجارة التمور والزراعة والنفط والغاز كله من البصرة، فلها الحق في الاستقلال الذاتي تحت الوصاية البريطانية، كإمارات الخليج العربي، وصدرت وثيقة فيها 1500 توقيع من تجار البصرة لانفصال البصرة تحتى مُسمى مملكة البصرة تحت الحماية البريطانية، كمصر وفلسطين، وأطلقوا عليها «الدولة الطالبية»، ومهدوا الطريق لرجوع النقيب لتولي دولته الجديدة. بقيت الرغبة التاريخية في استقلال البصرة، وخفتت في أيام حكم البعث، وعادت إلى سنة 1989، وقويت في سنة 2003، فنبشت الولايات المتحدة وثيقة الانفصال، وعاد كُتّاب في صحافة البصرة يلوِّحون لفكرة الانفصال هذه الأيام. عبدالله خلف
مشاركة :