المواجهة العسكرية مع التنظيمات التكفيرية والإرهابية مثل تنظيم داعش تبدو أبسط بكثير من مواجهة الأفكار والمعتقدات التي لا تحترم حرية الإنسان في التفكير والقول والمعتقد والممارسة. العربمروان ياسين الدليمي [نُشرفي2016/11/03، العدد: 10444، ص(9)] تقف الحريات المدنية في العراق عند مفترق طرق، تبدو فيها وكأنها باتت على المحك، ربما ستشهد الأيام القادمة انحسارا واضحا في المساحة التي تتحرك فيها سواء في صيغ التفكير أو في ممارسات يومية يعبر فيها الأفراد عن حرياتهم الشخصية، بما يعني أن العراق سيشهد انتكاسة كبيرة في هذا الإطار، وأن منظومة الحريات ستعود أدراجها إلى ما قبل عام 2003. تصاعد هذه المخاوف لدى المراقبين يأتي بعد كلمة نوري المالكي الأمين العام لحزب الدعوة الحاكم التي ألقاها في مؤتمر الصحوة الإسلامي الذي عُقد في بغداد، السبت 22 اكتوبر 2016، بحضور رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي وعدد من الشخصيات العراقية والإسلامية، وممثلين عن 26 دولة إسلامية. وقد جاء في نص كلمته “إن العدوّ له مخططات ولنا مخططات، ومخططات العدوّ هي إشاعة الأفكار المنحرفة. في العراق اليومَ هناك حركات ومنظمات مرتبطة بأجندات ومخابرات ومشاريع أجنبية بدأت تشيع في المكتبات وفي الكتب وفي أحاديثهم ما يجعل الشاب المتطلع إلى الدور الإسلامي يبدو يائسا”. واضح جدا، عودة النغمة ذاتها التي سبق أن تعودنا عليها في لغة الأنظمة السابقة التي حكمت العراق، ولعل غالبية الأنظمة في المنطقة العربية التي عادة ما يحكمها حزب واحد أو سلطة عسكرية تتشارك جميعها في تصدير مثل هذه اللغة التي يتم فيها التركيز على وجود أجندات أجنبية تقف وراء نشاط المثقفين ومنظمات المجتمع المدني، بمعنى التشكيك في ولائها للوطن وعمالتها للأجنبي، إلى غير ذلك من هذه الصيغ الجاهزة والمستهلكة التي يتمّ رميها على كل صوت لا يتفق مع منهج وخطاب السلطة أو الحزب الحاكم. من يراقب المشهد السياسي العراقي بموضوعية ويتابع ما يصدر عن أصحاب القرار من تصريحات وقوانين سيجد إمكانية أن تحدث مثل هذه الردة في العراق أمرا متوقعا، طالما أن من يحكمه لم يأت إلى عرش السلطة محمّلا بأفكار ليبرالية فيها ما هو قابل للمناقشة أو التعديل أو التبديل، بل جاء وهو يحمل عقائد وأيديولوجيات دينية وطائفية منغلقة على نفسها وعلى زمنها، وأمثال هؤلاء مهما ادّعوا إنصافهم للحريات المدنية فإنهم في لحظة معينة يكشفون عن احتقارهم لها ولأيّ فكر لا ينسجم مع فكرهم الذي عادة ما يسبغون عليه هالة من التقديس، لأنه، حسب اعتقادهم، مستلهم من فكر له صفة القداسة. ما يدعو إلى التساؤل أن مؤتمر الصحوة الإسلامية الذي عقد في بغداد نهاية الشهر الماضي والذي تصدر جلساته نوري المالكي، جاء توقيت افتتاحه قبل ساعات معدودة من إعلان البرلمان تصويته على قانون حظر الخمور والذي غطت أصداؤه على أحداث الحرب التي يخوضها الجيش العراقي لتحرير مدينة الموصل من سلطة داعش. فهل كان تزامن الحدثين اعتباطيا، أم أنه جاء وفق حسابات مدروسة خاصة وأن الهدف من عقد المؤتمر يأتي ردا على الأفكار التي تهدف إلى النيل من الأحزاب الدينية كما جاء في نص كلمة المالكي التي ألقاها في افتتاح المؤتمر؟ من المؤكد أن الربط بين الحدثين أمر وارد، لأننا أمام جهة دينية واحدة تقف وراء إقامة المؤتمر وكذلك قانون حظر الخمور، ولا أحد غير هذه الجهة يستشعر بالخطر وبشكل دائم ومرضي كلما تعالى الصوت مطالبا بالدفاع عن الحريات الفردية، لا أحد غيرها يكره حرية الاختلاف والخروج عن مسار القطيع، لا أحد غيرها مهووس بالسلطة لأجل السلطة وليس لأجل إحداث التغيير الملموس في حياة المجتمعات التي تحكمها، ولأنها عاجزة عن إيجاد حلول سليمة ونافعة للأزمات التي تعيشها شعوبها تشعر بقلق دائم على مستقبلها السياسي وعلى سلطتها، وهذا يعود بطبيعة الحال إلى أنها تدرك جيدا عجزها عن إيجاد وتوليد أفكار ومعالجات واقعية تؤهلها لزيادة رصيدها الشعبي بما يضمن بقاءها على رأس هرم السلطة، من هنا تلجأ إلى سلطة الخوف والرعب والتخوين والتضييق على الحريات المدنية، ابتداء من شرب الخمر وانتهاء إلى الزج بالذين يختلفون معها في المعتقلات أو تصفيتهم. لا شك أن البلاد ستدخل مرة أخرى في نفس النفق المظلم الذي كانت عليه قبل عام 2003 من حيث التضييق على حرية التعبير بعد أن كـان المناخ العام قد شهد خلال الأعوام الثلاثة عشر الماضية انفراجا واضحا، حيث غابت الرقابة تماما عن الكتب ولم تعد هناك عمليات مصادرة لأي عنوان سواء ما يأتي من خارج العراق أو التي يتم طبعها في الداخل، بل على العكس وجدنا السوق الثقافي يشهد حركة وازدهارا إذا ما قورن بالفترة التي سبقت سقوط نظام البعث، وربما لن نجد ما ينافسه في بقية الـدول العربية بهـذا المنحى، لأن كـل ما يسعى إليه القراء يجدونه مطروحا في المكتبات، وما من رقيب على أي عنوان، إلاّ أن الخوف بات يلازم العاملين في المشهد الثقافي هذه الأيام وأصبحوا يتوقعون المزيد من الإجراءات التي ستقيد الحريات، ولعل حرية الكتابة والمطبوعات ستكون في مقدمتها وهذا ما كشفته كلمة المالكي في المؤتمر المشار إليه، بما يعني أن المواجهة حول الحريات بين السلطة والمجتمع قادمة، خاصة بعد أن تهدأ الحرب ضد تنظيم داعش. السؤال الذي يطرح هنا: كيف سيكون شكل هذه المواجهة؟ من الطبيعي أنها لن تكون مواجهة عسكرية بل ستعبر عن حضورها في قرارات وقوانين على شكـل فرمانات وفتـاوى ستصدر عن السلطة، بموجبها ستوضع الكثير من الأنشطة والفعاليات الفنية والثقافية في خانة المنع والتحريم خاصة تلك التي تعكس صور الاختراق أو الغزو الفكري الأجنبي، كما يتصور دعاة مؤتمر الصحوة الإسلامية. لم يعد خافيا على أحد أن المالكي لم يبد مرونة كـافية في شخصيته بما يجعـل التكهـن بإمكانية أن ينفتح على أفكار الآخرين ويتراجع عن قناعاته ومواقفه المتصلبة والمتزمتة، وقد كشف عن ذلك في أكثر من موقف خاصة إذا ما وجد شخصية سياسية مشاركة في العملية السياسية تقاطعت معه، فسرعان ما يحوك لها مؤامرة تطيح بها، ولأجل ذلك عمل خلال سنوات حكمه التي امتدت لثمانية أعوام على أن يجعل من سلطة القضاء العراقي خاضعة لنفوذه، ولو عدنا بالذاكرة إلى الوراء قليلا واستعـرضنا عـدد الشخصيـات التي نال منها المالكي لمجرد أنها اختلفت معه في الرؤية سنجد أسماء كثيرة، منها ما كانت تتـولى مناصب رفيعـة في الحكـومة، ولـم يكـن هنـاك أيّ شبهـات حولها طيلة مشاركتها في العملية السياسية إلى أن وضعها في دائرة أعدائه ليطيح بها وبمستقبلها السياسي ولتصبح في خبر كان، وليس هنالك ما يدعونا إلى أن نستعرض الأسماء التي اختفت تماما من المشهد السياسي بعد أن كانت فاعلة ومهمة فيه، لعل أبرزها طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية، ورافع العيساوي وزير المالية والنائب في البرلمان أحمد العلواني، وواضح جدا، الصبغة الطائفية في عملية استهداف الخصوم حيث أن معظمهم ينتمون إلى العرب السنة. إزاء ما يجري من تطورات علينا إذن أن نأخذ كلام المـالكي في هذا المؤتمر مأخذ الجدّ، لأننا سنرى ما ستفصح عنه الأيام القادمة من انحسار واضح في الحريات المدنية. إن المواجهة العسكرية مع التنظيمات التكفيرية والإرهـابية مثـل تنظيم داعـش تبدو أبسط بكثير من مواجهة الأفكار والمعتقدات التي لا تحترم حرية الإنسان في التفكير والقول والمعتقد والممارسة، ومن المؤكد أن المواجهة العسكرية ستنتهي بهزيمة داعش لا محالة، لكن المواجهة مع أولئك الذين يعتقدون بأنهم أوصياء على عقول وأفكار الآخرين ستبقى الأشد خطورة، وليس هناك من إشارات تبعث على التفاؤل، بل على العكس من ذلك، هنالك الكثير من الوقائع التي تؤكد على أنها ستزداد حدة في قادم الأيام بحجة مواجهة المنظمات والتجمعات المدنية المرتبطة بقوى وأجندات أجنبية تسعى إلى تخـريب الحكم الـذي تقوده أحزاب الإسلام السياسي وإشاعة الأفكار الغربية الهدامة والمنحلة، ولعل أبرز علامات هذه الحرب صدور قانون منع الخمور. كاتب عراقي مروان ياسين الدليمي :: مقالات أخرى لـ مروان ياسين الدليمي الحرب على الحريات المدنية في العراق, 2016/11/03 الخزعلي يسعى لقتل العرب السنة في الموصل ثأرا للحسين , 2016/10/29 ما بعد داعش، تحديات الوجود والهوية أمام العرب السنة في الموصل, 2016/10/22 حتى لا تكون الموصل بعد تحريرها ميدانا لثأر أعمى, 2016/10/12 العراق.. مكافأة الفاسدين, 2016/10/01 أرشيف الكاتب
مشاركة :