تحليل الدواعي النفسية المضمرة لاستخدام مصطلح الشعب في هذه الكلمة يكشف عن نزعة نرجسية مبطنة، حيث أن الهدف من وراء النطق باسمه هو جعل الحاكم يحل محل الأحزاب والتنظيمات. العربأزراج عمر [نُشرفي2016/11/03، العدد: 10444، ص(9)] تميّزت الكلمة التي وجهها الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة إلى الشعب الجزائري في أول نوفمبر من الشهر الحالي، بمناسبة إحياء ذكرى انطلاقة حركة التحرر الوطني الجزائري في عام 1954 ضدّ الاحتلال الاستيطاني الفرنسي، بتكرار نفس القاموس النمطي الذي تعوّد عليه الشعب الجزائري على مدى 54 سنة من الاستقلال، حيث لم تتضمن سوى العموميات مثل العزف على وتر بطولات الماضي، وتضحيات الشهداء، فضلا عن وصف الوضع الجزائري الراهن بأنه وضع مثالي رغم أن الحقائق غير مطابقة للواقع المأزوم. لا شك أن جزءا مهما من موروث حركة التحرر الوطني الجزائري وأخلاقياته يعدّ علامة مضيئة في مقاومة الاستعمار الفرنسي، وأن الاحتفال برمزيات هذا الحدث التاريخي المتمثل في مقاومة الاستعمار الفرنسي، على مدى 130 سنة وبشهداء الكفاح المسلح، واجب وطني ولكن لا ينبغي أن تطمس طقوس هذه الاحتفالات العاطفية كل مظاهر العبث المتواصل بالرمزيات الإيجابية لهذا التراث، وإخفاقات مرحلة الاستقـلال في بناء الـدولة العصـرية المؤسسة على الديمقراطية والرفاه الاجتماعي والتطور الثقافي والعلمي والتربوي والاقتصادي والتنظيم الاجتماعي المتطور. وفي الحقيقة فإن المشكلة المزمنة لجزائر مرحلة الاستقلال تتمثل في التناقض الصارخ بين عناصر كثيرة لمضامين حركتها الوطنية وقيمها، وبين الواقع المأزوم لمرحلة الاستقلال الذي فرّغ من محتواه من طرف النظام الجزائري الذي لم ينجز أي مشروع تحديثي في البلاد يمكن مقارنته حقّا بإنجازات الكثير من دول العالم الثالث التي عرفت بدورها الظاهرة الاستعمارية الأوروبية الغربية. قال الرئيس الجزائري في كلمته بلهجة التعميم وبالصيغة الشعبوية “يكفي الشعب الجزائري فخرا أن عمله اليوم في الداخل والخارج هو في مستوى عمله إبّان ثورته المجيدة بالأمس، وأن ذلك يضعه في مكانته اللائقة به بين الأمم، ويتيح له الانطلاق بقوة لتحقيق أقصى ما تصل إليه آماله وتطلعاته”، ثم أضاف في نفس السياق في محاولة لتعبئة المواطنين لإضفاء الشرعية الشعبية على السلطة الحاكمة من جهة، ولمواجهة ما يدعوه بالتهديدات الخارجية للمساس بالوحدة الوطنية من جهة أخرى من دون أن يسمّي الأمور بأسمائها الحقيقية “لقد أضحى الشعب الجزائري مما مرّ به من أحداث وتجارب، على وعي تام بالمخاطر المحدقة به وبالمنطقة فلن يتهاون في مجابهة من يروم المساس بوحدته وثوابته أو تهديد أمنه واستقراره”، وأنه “سيظل ماضيا بقوة وثبات على درب التطور والتقدم، عاملا على إرساء قواعد ديمقراطية حقّة وحرية مسؤولة وعدالة شاملة وتنمية دائمة تمكنه من أسباب المناعة والقوة”. وهنا نتساءل: هل صحيح أن النظام الجزائري يمثل المرجعية الشعبية للجزائر العميقة، وأنه قد سمح ولا يزال يسمح للشعب الجزائري على مدى 54 سنة من عمر الاستقلال أن يتشكل كبنية أساسية تفرز بحرية الحكم السياسي، وأن يملك بقوة القوانين صلاحيات المبادرة والعمل على مستوى الداخل والخارج وفي مناخ الديمقراطية الشعبية ليحقق طموحاته؟ أم أن الحقيقـة تقـول إن هـذا الشعـب مكبّـل وأنـه في واد والنظام الذي يحكمه في واد آخر؟ الطريف في الموضوع أن تحليل الدواعي النفسية المضمرة لاستخدام مصطلح الشعب في هذه الكلمة كقناع للحاكم الفرد يكشف عن نزعة نرجسية مبطنة، حيث أن الهدف من وراء افتراض النطق باسمه وتمثيل الحاكم الفرد له بشكل مطلق هو جعل الحاكم يحلّ محل الأحزاب والتنظيمات والروابط التي هي التعبير الحقيقي لإرادة الشعب. ومن المؤسف حقا هو أن هذه التشكيلات التنظيمية المدنية المختلفة التي يتميز بها طور بناء الدولة بعد بناء طور المجتمع، قد تمّ تحويلها إلى جزر منفصلة منقطعة عن بعضها البعض، الأمر الذي جعل منها ظاهرة شكلية ووظيفية لتزيين واجهة النظام الحاكم فقط. في ظل هذا الوضع غُيّب المناخ الملائم الذي يؤهل الشعب الجزائري بإبراز وتنمية عبقريته الإبداعية والانطلاق في تحقيق التطوّر المادي والروحي الحداثيين داخل الوطن. وجرّاء مثل هذه السياسات تمّ تعطيل ولادة المساهمات الجزائرية النوعية والاستثنائية في مختلف المجالات الثقافية والفكرية والصناعية والتعليمية والعمرانية والتكنولوجية والاقتصادية التي تجعل الجزائر تتموقع في المكانة اللائقة، التي يتحدث عنها الرئيس الجزائري بأسلوب المجاز الغامض، والإطناب العاطفي والتفكير الرغبي. لا شك أن التكبيل وإقصاء الوطنيين المخلصين الذين يملكون مشروع الدولة الحداثية، والحكم الفردي الذي يقوم بدور الزعامة التقليدية وليس القيادة، هي العوامل التي لعبت ولا تزال تلعب أدوارا مفصلية في لجم إمكانية تأسيس نموذج للدولة العصرية في المجتمع الجزائري، التي بموجبها يمكن له أن يمارس إنتاج المقومات المؤهلة للمشاركة في البناء الحضاري الملموس والفعال على المستوى المغاربي والعربي والإسلامي والدولي. إن مثل هذه الغاية معطلة جرّاء تكريس النظام الجزائري لظاهرة الانسحاب النفسي الخطيرة وفرضه على المجتمع الجزائري حيث نتج عنها التقوقع والنكوص وغلق الحدود وعزل البلاد عن محيطها المغاربي والدولي. ثم أين هي هذه القواعد الديمقراطية الحقّة، والحرية، والعدالة الشاملة والتنمية الدائمة التي يلوّح بها الرئيس بوتفليقة، في الوقت الذي تتمّ فيه ممارسة الحكم بأسلوب العصبية المتمركزة عائليا وجهويا، وتُقمع المعارضة ولا يُسمح لها حتى بالمظاهرات السلمية التلقائية لتصحيح هذا الخطأ أو ذاك، وتتعرض جميع المشاريع التنموية للتجميد حينا، وللتنفيذ البدائي ولاختلاس غلافها المالي أحيانا كثيرة. أما شعار العدالة المرفوع فليس سوى قبضة سراب لأن تجسيدها مشروط بإلغاء سياسات التراتبية الاجتماعية، واستبدالها بسياسات دولة الرعاية الاجتماعية أولا، ومحو الفروق الطبقية التي تخلق مجتمع العنف المادي والرمزي اللاغي لفكرة العدالة ثانيا. من المؤسف أن الاحتفال النمطي بانطلاق ثورة أول نوفمبر 1954 يوظّف باستمرار في إطار لعبة الهيمنة كآلية سيكولوجية مخطط لها، لضمان النظام الحاكم المحافظة على ما يسمى بالشرعية الثورية، التي يوهم بها المواطنين على أنها رأسماله الرمزي الوطني، ولكن هدفه الجوهري المضمر في ذلك هو البقاء على رأس حكم البلاد، وتحويل الأنظار عن المشكلات الحقيقية المركبة التي تعصف بالمجتمع الجزائري مثل أزمات السكن المعقدة والبطالة المستشرية، والفساد المالي والانهيار الأخلاقي وفقدان المواطنين للثقة في السلطات، وفشل المنظومة التعليمية في تحقيق المستويات التربوية والتكوينية المتطورة، وغياب الحريات، والتلاعب بالدستور والقوانين فضلا عن عدم احترام التعددية الحزبية، وتثبيت نمط الحكم الفردي والشللي والجهوي الذي يتنافى مع أبجديات شكل الدولة الحداثية ومضمونها حيث ينبغي أن يصنعها الشعب وأن يتمتع بحق مراقبة الحكومات المنتخبة المتعاقبة ومحاسبتها. وفي الواقع فإن شعار الشرعية الثورية الفضفاض المكرس في الساحة السياسية الجزائرية يعني الدوران في فلك الدولة الدكتاتورية التقليدية التي لا تستمدّ الشرعية من المجتمع المدني. كاتب جزائري أزراج عمر :: مقالات أخرى لـ أزراج عمر الجزائر: ما أوسع شارع الشهداء وما أضيق زقاق الاستقلال, 2016/11/03 بلاش فلسفة, 2016/10/28 مسرحية إبعاد عمار سعداني وحكم جماعة تلمسان, 2016/10/27 هكذا يستخرجون الفن من الفكر, 2016/10/21 لماذا تتدهور التنمية في الجزائر, 2016/10/20 أرشيف الكاتب
مشاركة :