«مقهى الشباب الضائع» لباتريك موديانو ... الفقدان والذاكرة

  • 11/8/2016
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

فاز بجائزة نوبل للأداب «لتمكنه من فن الذاكرة الذي أنتج أعمالاً تعالج المصائر والهوية والفقدان والأمل». إنه الفرنسي باتريك موديانو الذي صدرت روايته «مقهى الشباب الضائع» أخيراً عن دار «رؤية» في القاهرة، بترجمة المغربي محمد المزيوني. إنه يكتب سيرة مقهى في قلب العاصمة الفرنسية باريس، مقهى «كوندي». هي سيرة الإنسان، عبر شخوص تنضح حكاياتها بالشجن، وتتقاطع ذكرياتها مع ذكريات المكان. يراهن موديانو على معنى «العود الأبدي»، الذي طرحه الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه، وهو يفترض أن الزمن لا متناهٍ باعتبار أنه مفهوم فيزيائي ابتكرناه لقياس الحركة والسيرورة في العالم. ومن هذا المنطلق فلا شيء يحدّ الزمان لأنه يمتد إلى اللانهاية، حتى بعد توقف هذه الحركة، وتلك السيرورة. ولكن الحاجة تنتفي له عندئذ. وبما أن حوادث الكون هي عبارة عن تشكلات مختلفة للمادة وفق تعاقُب معين، فإن هناك زمناً كافياً لكي يستنفد الكون التشكيلات الممكنة والسيرورات والاحتمالات التي تصنع الحادثات. وعندما يستنفد الكون هذه الاحتمالات ويبقى الزمن ممتداً بلا نهاية، تعود هذه السيرورات لتكرر نفسها نظراً الى عدم وجود سيرورات جديدة. وهكذا يحدث تكرار دائم ويصبح العالم في حالة «عود أبدي». وكأن الكاتب، بتوظيفه لهذه النظرية الفلسفية يريد أن يستبطن اللحظات السعيدة والحيوية التي تساعد الإنسان على مقاومة المحو والنسيان: «لحد اليوم، يحدث لي أن أسمع في المساء صوتاً يناديني باسمي في الشارع، ولكن لا أحد». يكتب موديانو عن الفقدان والذاكرة، عن الافتقاد والشغف. تحكي الرواية عن فتاة غامضة تتشكل صورتها من خلال رجال يسردون قصصهم معها، وكيف يرونها طوال سير خط الرواية الزمني. إنها سرديات الرجال عن هذه الفتاة، «لوكي»، الغامضة التي: «ذابت فى ديكور المقهى»، من طول جلوسها فيه، وكأنها جزء أصيل من المكان. يسرد الكاتب حكايات هذا الشباب الضائع مع الماضي المظلم، وعبر حكاياتهم نرى أزمنة مضت، ومشاعر ذوت، وتغيرات اجتماعية حدثت. ينجح الكاتب في رسم خريطة لباريس، الأحلام والآمال، يضل العاشقون الطريق، مع الحنين المستمر والمشاعر الفيَّاضة للأشخاص الذين نلتقيهم باستمرار. إن موديانو يحاول أن يكتب باريس التي لا نعرفها في الصور وكتب السياحة، ولكن باريس الحقيقية، باريس المجتمع السري، مجتمع الحارات، والأزقة، المقاهي، والبارات الشعبية، الشقق المفروشة، والحدائق الصغيرة على حافة المقابر. كتب موديانو باريس الخاصة به، القلقة المتوترة الضائعة مع شباب ما بعد الحرب حتى البوهيميين والكلوشــار، وأحــداث الستــيــنات، وإضرابات الامتناع عن العمل: «كانوا أوفياء لشبابهم أي لهذه الكلمة الجميلة والرخيمة والمهجورة التي نطلق عليها (بوهيميين)، أبحث في القاموس عن تفسير لكلمة (بوهيمي) فأقرأ: شخص يعيش حياة متسكعة من دون قواعد، ولا قلق على المستقبل، هذا التعريف ينطبق على مرتادي مقهى كوندي». على رغم أن قصة الفتاة جاكلين (لوكي) هي الحكاية الرئيسية في النص إلا أن الكاتب من خلال سردها كتب حكايات عن الشباب الضائع بين إدمان الكحول والمخدرات، والأفكار المستوردة من الشرق، التي غزت عقل شباب أوروبا: أفكار العود الأبدي والآفاق الضائعة وفلسفات التبت وكتب الاستشراق والديانات البوذية، حيث صور: الظهيرة المظلمة، والضوء الأخضر، والتركيز الروحي، والكريستال الذي يحلم، اجتمع في مقهى «كوندي»، العرب والسود والفرنسيون المضروبون بالإدمان والوحدة والقلق، المرض الذي هو أقوى من الخوف. يتكون البناء المعماري للنص من أربعة فصول، بكرنفالية سردية متعددة الأصوات، فثمة أربعة رواة يرسمون صوراً مختلفة لهذه الفتاة الغامضة، من زوايا رؤية متعددة. يتسلم مقاليد السرد في الفصل الأول طالب في مدرسة المعادن يروي أحداثاً تظهر فيها شخصيات قليلة في مقهى «كوندي». صنعت تلك الأحداث نوستالجيا ضخمة تجاه فتاة غامضة هاربة من أهلها في الطفولة، وتم توقيفها غير مرة بتهمة التشرد، ثم تظهر وقد قاربت العشرين لكي تصبح صديقة الجميع ولكنها ليست صديقة أحد، وحيدة لا تستطيع أن تحدد لها وظيفة، ثم تتزوج من رجل يقع في غرامها، وهو أكبر منها بحوالى 15 سنة، وما تلبث أن تهرب مرة أخرى من زوجها. لا يُعرف اسم هذه الفتاة في بداية النص، بل نعرف الاسم المستعار الذي كانوا ينادونها به في المقهى، والذي كان يتردد عليه الراوي في شبابه. كانت تعتبر تلك الفتاة الأنثى الكاملة، والحب الذي لا يوصف بالنسبة إليه. إنه يحاول جاهداً أن يكشف عن حقيقة تلك الفتاة، يضع تصورات مختلفة عن أسباب مجيئها لهذا المقهى، ثم يقرر أن يتتبع حياتها لمعرفة حقيقتها، ومن تكون، فلم يصدق أنها فقط تلك الفتاة «لوكي» التي حضرت ذات مساء إلى هذا المقهى، ثم علقت بينهم، وصارت تحضر كل يوم في الموعد نفسه. أما الصوت السردي أو الراوي الثاني، هو المحقق كيزلي الذي تسلَّم مقاليد السرد في الفصل الثاني ليحكي قصته مع جاكلين، الاسم الحقيقي للفتاة، نعرف من خلاله معلومات عن ماضيها. ولكن، بينما نعتقد أن هذا المحقق يقوم بإنهاء الرواية عبر كشف بعض أقنعة ماضيها، فجأة نستمع إلى الصوت الثالث، لنكتشف أن ثمة حقائق أخرى وتفاصيل لم نعرفها بعد، وأن ثمة جوانب غامضة في شخصية الفتاة، لا تكشفها سوى جاكلين، فتتسلم مقاليد الحكي، في الفصل الثالث، لنرى أجزاء من ماضيها لم نكن نعرفها، نراها عبر عيونها ونسمعها عبر صوتها، صوت لوكي/ جاكلين. تقرر جاكلين أن تعري ذاتها أمام القارئ، ونتفهم سبب هروبها الدائم من ماضيها الذي كشف لنا جزءاً منه طالب مدرسة المعادن أو المحقق. وفي الفصل الأخير، تقوم شخصية رولاند بدور أخير، إنه يكشف لنا عن الأدوار التي لعبتها الشخصيات طوال الرواية. «لوكي» وصديقة لها يلتقيان باريسياً غريب الأطوار، وهم واقعون تحت تأثير الكحول ومخدر يطلقون عليه «الثلج»، ويدعونهم مع الأصدقاء إلى رحلة إلى المكسيك أو الإقامة فى بيته في مايوركا، ولكنهم يفضلون البقاء حيث هم في المقهى الأبدي ويتبادلون اللعب بأبيات الشعر بكل اللغات التي يعرفونها. ثم غابت «لوكي» عن المقهى أياماً، وعندما ظهرت صديقتها التي كانت تسكن معها الشقة المفروشة، عرف الجميع «لوكي ألقت بنفسها من النافذة» وقالت صديقتها إنها سمعتها تقول لنفسها كي تتشجع انتهى الأمر، طاوعي نفسك واستسلمي. ثمة مقولات أخرى يختبرها الكاتب في النص فـ «الحياة عبـارة عن صندوق قديم يحتوي على صور ممزقة أعيد تجميعها، ذاكرتي أنا سبقت حياتي». كذلك يكتب لنا الكاتــب مقـولة العشق الأبدي، فـ «عندما نحب شخــصاً في شكل حقيقي، يجب علينا أن نقبـــل جزءه الغامض. لهذا السبب سنبقى دائماً نحبه».

مشاركة :