في اختباره الأول، لم يمنع النظام السياسي الأميركي الهيمنة البيضاء بصورة تامة، ولكنه منع تحولها إلى طغيان. وها هو يواجه الاختبار الثاني والمتمثل بتقييد جنون وطغيان دونالد ترامب. العربسلام السعدي [نُشرفي2016/11/12، العدد: 10453، ص(8)] مع انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأميركية، انتهت مخاوف مناصري الحزب الجمهوري من أن ابتعادهم عن منصب الرئاسة أصبح بنيويا، أي أنه يرتبط بالتغير العميق للتركيبة الديموغرافية لأميركا والتي أصبحت متنوعة، عرقيا ودينيا، إلى درجة صارت تمثل عائقا أمام وصول حزب محافظ إلى السلطة. تلك المخاوف كانت قد تعززت بانتخاب رئيس ديمقراطي أسود البشرة لدورتين متتاليتين، وما بدا من إمكانية احتفاظ الحزب الديمقراطي بالسلطة عبر هيلاري كلينتون، بحسب جميع استطلاعات الرأي. لكن فوز دونالد ترامب أكد مجددا أن التنوع الأميركي لا يزال مقيدا، وبأن هيمنة المجموعة البيضاء على سواها من المجموعات لا تزال مستمرة. لا يمكن رد فوز مرشح مثير للجدل مثل دونالد ترامب إلى سبب واحد، بل إلى مجموعة من الأسباب تتداخل في ظل التحولات الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة التي عصفت بالمجتمع الأميركي خلال العقود الماضية. للمسألة جانب شخصي أيضا يتعلق بطبيعة وتكوين كل من دونالد ترامب، الرجل الذي استمال شرائح واسعة من الأميركيين المحبطين، وهيلاري كلينتون، المرأة التي لا تتمتع بقدر كاف من الشعبية والثقة. يبدو تزايد أعداد المحبطين في المعسكر الديمقراطي والذين امتنعوا عن التصويت عاملا حاسما في فوز دونالد ترامب. تشير البيانات إلى أن نسبة المشاركة في الانتخابات الأخيرة انخفضت من 57 بالمئة عام 2008 إلى 52 بالمئة. ما يوضح حجم الإحباط والامتناع عن التصويت هو أنه ورغم اتساع عدد الذين يحق لهم التصويت، حيث انضم إلى تلك الفئة 22 مليون شخص منذ العام 2008، انخفضت أعداد المصوتين بأكثر من نصف مليون صوت وخصوصا لدى الديمقراطيين. يضاف إلى ذلك وجود الملايين من الأميركيين الذين لا يحق لهم التصويت لأسباب مختلفة. بحسب جامعة نيويورك، فإن 11 بالمئة من الأميركيين الذين لديهم حق التصويت لا يملكون بطاقات هوية مناسبة، وتزيد هذه النسبة بين السود وأصحاب الدخول المنخفضة والطلاب، وهؤلاء يصوتون بنسبة كبيرة للحزب الديمقراطي. كما أن هناك نحو 11 مليون مقيم غير مسجلين رسميا في الولايات المتحدة رغم أنهم يقيمون منذ عقود ولديهم أبناء يحملون الجنسية الأميركية ويعملون ويدفعون الضرائب، وهي أصوات تميل بالطبع إلى الديمقراطيين. وأخيرا هناك ما يقارب من 6 ملايين محروم من التصويت لتعرضهم إلى إدانة جنائية خلال فترة ما من حياتهم. أحد الجوانب الأخرى شديدة الأهمية هو أن نتيجة الانتخابات كانت انعكاسا، بدرجة ما، لحالة الهلع والنقمة بين الأميركيين البيض، وهم يشكلون 70 بالمئة من مجموع السكان. عاشت تلك الشريحة عقدين من التحولات السريعة، إذ اجتاحت التكنولوجيا بصورة سريعة وواسعة قطاعات الاقتصاد، ما أدى إلى إلغاء عدد كبير من الوظائف وانحدار مكانة وظائف أخرى كانوا يشغلونها. كما تزايدت أعداد المهاجرين وتمت إباحة زواج المثليين، وحكم بلادهم رئيس أسود لولايتين وأمور كثيرة أخرى كرست “انهيار” أميركا البيضاء والمحافظة التي عرفوها دوما. بناء على ذلك، يمكن فهم كيف أن 65 بالمئة من الذين صوتوا لدونالد ترامب يعتقدون أن المهاجرين يشكلون أهم مشكلة تواجه أميركا، مقابل 40 بالمئة فقط يعتقدون أن الاقتصاد هو المشكلة الأساس. لقد عكس تشبثهم بدونالد ترامب رغبتهم في “استعادة أميركا” التي يشكلون فيها الفئة المهيمنة من دون منافسة. تدعم بيانات المصوتين هذا التحليل، إذ أنه ورغم تصريحات ترامب غير اللائقة بحق النساء، والتي توقّع كثيرون أنها قد تتسبب في خسارته تلك الشريحة، حصل على 53 بالمئة من أصوات المرأة ذات البشرة البيضاء. فيما حصلت هيلاري كلينتون على 93 بالمئة من أصوات المرأة ذات البشرة السوداء. أما الرجال من ذوي البشرة البيضاء فقد صوتوا بنسبة 65 بالمئة لترامب. امتلك مؤسس الديمقراطية التمثيلية الأميركية والمعروف بالأب الروحي للدستور الأميركي جيمس ماديسون نظرة شديدة التشاؤم للطبيعة الإنسانية. عالم السياسة ورابع رئيس للولايات المتحدة (1809-1817) اعتبر أن الأفراد ينحازون بغريزية عمياء نحو مصالحهم الخاصة ضاربين عرض الحائط بـ”الصالح العام”. المجموعات، وهي تتكون من أفراد، سوف تفعل ذلك بدورها إذا أتيحت لها الفرصة. لذا، عمل ماديسون على تأسيس نظام دستوري قوي يمنع “الانحرافات الغريزية واللاعقلانية”، ويكبح أي فرد أو مجموعة من الهيمنة حتى ولو كانت أكثرية. وكأنه يتنبأ بوصول دونالد ترامب إلى السلطة، اقتنع ماديسون بأنه لا يمكن استبعاد احتمال وصول قادة غير مؤهلين لإدارة شؤون الدولة. ما يمكن ضمانه فقط هو أن يكون النظام منيعا وقادرا على احتواء المصالح المتضاربة وتقييد هذا النوع من القادة بعد تسلمهم السلطة. في اختباره الأول، لم يمنع ذلك النظام الهيمنة البيضاء بصورة تامة ولكنه منع تحولها إلى “طغيان”. وها هو يواجه الاختبار الثاني والمتمثل بتقييد جنون وطغيان دونالد ترامب، ودفعه إلى العقلانية أو إلى التظاهر بها. كاتب فلسطيني سوري سلام السعدي :: مقالات أخرى لـ سلام السعدي مناعة النظام السياسي الأميركي أمام ترامب, 2016/11/12 انهيار دولة الخلافة في الموصل, 2016/11/05 حول صعود وهبوط الحماس الأميركي للتدخل العسكري, 2016/10/29 الهيمنة الإيرانية تمر عبر الموصل, 2016/10/23 الانتخابات الأميركية: هل تأخر إقصاء ترامب, 2016/10/15 أرشيف الكاتب
مشاركة :