بالنسبة إلى أميركا، رغم أن كلفة دعمها المادي لإسرائيل كبيرة تفوق الدعم الخارجي الذي تقدمه لدول العالم مجتمعة، يبقى وجود هذا الكيان كعنصر توتر في الوطن العربي ضروريا.العرب سلام السعدي [نُشر في 2017/06/28، العدد: 10675، ص(9)] رغم موقفه شديد العداء للفلسطينيين أثناء حملته الانتخابية، لم يمنع ذلك الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الالتزام بما بات عرفا دبلوماسيا أميركيّا يتعلق بادعاء مواصلة جهود إحلال السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين بصورة حيادية. منذ اتفاق أوسلو الموقّع في العام 1992، أصبحت مهمة إطلاق، أو إنعاش، المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي حاضرة دوما في الأجندة الأميركية الخاصة بالشرق الأوسط. أطلق بيل كلينتون تلك السياسية فيما عمل كل من جورج بوش وباراك أوباما في ولايتيهما الرئاسيتين على ترسيخها كعرف دبلوماسي أميـركي يهدف إلى التـرويج السيـاسي أكثـر منه إلى التـوصل للسلام. ذلك أن الرعاية الأميركية للمفاوضات لم تتخذ يوما طابعا جديّا يوحي بأن الأمر ذا أهمية سياسية كبيرة كما تدعي الإدارات الأميركية اللاحقة. ربما باستثناء مفاوضات كامب ديفيد التي رفض فيها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات التنازل عن كل شيء مقابل الحصول على قطعة أرض مقطعة الأوصال وغير قابلة للحياة. وقد انتهت تلك المفاوضات إلى انطلاق الانتفاضة الثانية في العام 2000. هكذا، ورغم العداء الاستثنائي الذي أبـداه الرئيس الأميركي خلال حملته الانتخابية للفلسطينيين، توعد بمجرد انتخابه أنه سينجح في التوصل إلى سلام دائم بين الجانبين. ويعتقد كثيرون أن إدارة دونالد ترامب هي الأبعد عن إمكانية تحقيق ما عجزت عنه الإدارات السابقة. أهم الأسباب التي يسوقها المدافعون عن هذا الرأي تتعلق بالمبعوث الذي كلّفه ترامب بهذه المهمة وهو غاريد كوشنر، مستشار الرئيس الأميركي وصهره الذي يحظى بثقته المطلقة. لا يمتلك كوشنر أي خبرة سياسية تذكر، فضلا عن خبرة بالعلاقات الدولة وحل النزاعات. إذ قضى جل حياته كرجل أعمال في مجال التطوير العقاري، وهي خلفية مشابهة للرئيس نفسه وهو ما دفعهما للتركيز على الوصول إلى “صفقة نهائية” في محاولة لنسخ خبرة المفاوضات التجارية على المفاوضات سياسية. يكمن التعقيد في أن المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية ليست مفاوضات سياسية روتينية بين دولتين ناجزتين، بل بين كيانين غير مستقرين. فمن جهة، هنالك كيان إسرائيلي لا يزال في خضم مرحلة التوسع الخارجي والتغيرات الداخلية وذلك رغم الاستقرار الكبير الذي بات ينعم به منذ توقيع اتفاقيات السلام مع مصر في العام 1979، ومن ثمّ مع الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية في العام 1994. إذ لا يزال يقيم أكثر من مليون ونصف فلسطيني-عربي داخل الكيان الإسرائيلي وهو ما يجعل دمقرطة الدولة، وبالتالي استقرارها السياسي، أمرا عسيراً ويدفعها للتحول إلى دولة يهودية عنصرية. على الطرف الآخر هنالك كيان سياسي فلسطيني منقسم على نفسه يفتقد لبنائه المادي. فحيث تسيطر السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس، تقطعت أوصال الأراضي وينتشر سرطان المستوطنات الإسرائيلية بشراسة ويوشك على التهام الكيان الفلسطيني. وفي غزة، تسيطر حركة حماس على قطعة جغرافية تحت حصار ولا يحظى حكمها لا بشرعية دولية ولا إقليمية. يظهر ما ذكر حجم التعقيدات التي تحيط بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي وضرورة فهمها. من هذه الزاوية تنعدم حظوظ كوشنر وترامب بإحراز أي تقدم. لكن المسألة الأهم ليست فقدان خبرة حل النزاعات والتفاوض السياسي. فحتى لو حضرت تلك الخبرة، تبقى حظوظ التوصل إلى حل سياسي للقضية الفلسطينية شبه معدومة. ذلك أن المطلوب ليس الخبرة السياسية وإنما الإرادة لحل تلك القضية. والإرادة في العرف السياسي وفي العلاقات الدولية لا تنبع من الأخلاق بالطبع، إذ ليست الرغبة في أن يعيش أطفال الجانبين بسلام هو ما قد يشكل تلك الإرادة، بل إنها المصلحة. بالنسبة إلى أميركا، رغم أن تكلفة دعمها المادي لإسرائيل كبيرة وتفوق الدعم الخارجي الذي تقدمه لدول العالم مجتمعة، يبقى وجود هذا الكيان غير الناجز كعنصر توتر في الوطن العربي ضرورياً. إذ لطالما شكل مصدراً للنزاع وانعدام الاستقرار، وهي بدورها عوامل تركت بصمتها السلبية على مسار التطور السياسي والاقتصادي للمنطقة ونظمها السياسية. بالنسبة إلى إسرائيل، لا يبدو أن هناك تكلفة كبيرة مقابل الإبقاء على احتلالها. فباستثناء التكلفة السياسية التي تدفع ثمنها عبر تحدي منظمات العمل الأهلي ومنظمات حقوق الإنسان وإظهارها دولة عنصرية والدعوة إلى مقاطعتها، فإن تكلفة إبقاء احتلالها وعدوانها قليلة للغاية في ظل عدم وجود تحدّ دولي لها وفي ظل خمود التحدي الداخلي بعد تشظي وضع الفلسطينيين. انطلاقا من ذلك، على أي إدارة أميركية تريد إحلال السلام إيجاد ذلك التحدي لإسرائيل ورفع كلفة سياساتها العدوانية. حتى اليوم، لا يزال خيار مواصلة الاحتلال أقل تكلفة من خيار السلام. كاتب فلسطيني سوريسلام السعدي
مشاركة :