بعد سنتين من تلمّس جزيئات «بوزون هيغز»، وهي الغبار الأوليّ الذي شكّل مادة الكون، أُلقي ضوء مذهل على اللحظة الأولى من الـ «بيغ- بانغ»، وهو الانفجار الذي يفترض أنه حدث قبل قرابة 13.8 بليون سنة، وكان بداية تشكّل الكون. تخلب تلك اللحظة عقول العلماء منذ بداية القرن العشرين، عندما فكّر آلبرت اينشتاين أن الكون تمدّد من تلك اللحظة، كما تفرد قطعة قماش هائلة، بل كأنها تنفض وتتموّج... حرفيّاً. ماذا في القماشة؟ إنه الزمان... إنّه المكان، وكلاهما منسوجان معاً، كأنهما خيطان يصنعان نسيج قماشة الكون. استطاع اينشتاين تقديم أدلة كثيرة على نظريته حول موجات الجاذبية، وتمدّدها منذ بداية الزمان، لكنها لم تكن أدلة حاسمة. زاد تعقيد المسألة أن اينشتاين تراجع عن مقولة «تمدّد» الكون بفضل تموّجات الجاذبية المستمرة، معتبراً أن للكون حدوداً ثابتة. قبل أن يموت، برهن له عالم الفلك الأميركي إدوين هابل أن الكون يتمدّد باستمرار. ندم اينشتاين، ووصف مقولة ثبات الكون بأنها «زلّته الكبرى». في تلك الآونة، لم يبق من مدافِع عن موجات الجاذبية سوى نظرية الـ «كوانتوم» في الفيزياء Quantum Physics. في البداية، كان اينشتاين كموميّاً، ثم هجر هذه النظرية، فانشطرت الفيزياء المعاصرة بين نظريتي النسبية والـ «كوانتوم». وإذا أضيف تلمّس أدلة عن جزيئات «بوزون هيغز» التي يفترض أيضاً أنها رافقت البداية الأولى للكون، تكون صورة ذلك الفجر الذي انبلجت منه النجوم والمجرّات، أصبحت أكثر وضوحاً. الآن، يبدو أن انشطار العلم بين النسبية والـ «كوانتوم» ربما وصل إلى نهاية سعيدة: الصلح مجدداً. إذ رصد علماء الفلك آثاراً تدلّ على موجات الجاذبية كما كانت في اللحظة الأولى من فجر الكون عند الـ «بيغ- بانغ». لذا، لم يتردّد عالِم الفيزياء مارك كاميونكوفسكي، وهو أحد البحّاثة الذين رصدوا تلك الموجات، في وصف الاكتشاف بأنه يمثّل «الحلقة المفقودة في علوم الفلك». وتحقّق رصد موجات جاذبية الـ «بيغ- بانغ» بفضل تلسكوب يعمل بموجات الراديو إسمه «بايسبس 2» (BICEPS 2)، وهو مصطلح يختصر عبارة «تصوير خلفيّة الاستقطاب الكوني الأبعد من المجرّات». وتشير كلمة الاستقطاب إلى «كرمشة» في «قماشة» الكون وأضوائه، تحت تأثير موجات الجاذبيّة. ومنذ سنوات، يمسح تلسكوب «بايسبس 2» بدأب ما يُشار إليه باسم «القطب الجنوبي من الكون»، بحثاً عن موجات ميكروويف مافتئت تتراكض في خلفية الكون، منذ اللحظة الأولى من الـ «بيغ- بانغ». وعثر على تلك الموجات- الميكروويف، عام 1964. ومنذ ذلك الحين، لم يتوقف العلماء عن محاولة رصد الموجات الأقدم والأكبر عمراً، إلى أن وصلوا الآن إلى موجات يتطابق عمرها مع الزمن النظري لانفجار «بيغ- بانغ». واستطراداً وإنصافاً، لم يكن اينشتاين هو من صاغ معادلات الـ «بيغ- بانغ»، بل لم يصغ هذا المصطلح. يرجع الفضل الكبير في صوغ هذه النظرية إلى عالم الفيزياء البريطاني ستيفن هوكينغ الذي وجد حلاً لمعادلة رياضيّة تتصل بظهور نقطة الـ «بيغ- بانغ». وأُعلِن هذا الاكتشاف من «مركز سميثونيان- هارفرد لفيزياء الفلك». وأوضح جامي بوك، وهو عالم فيزياء في «معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا» في «باسادينا، ان الإنجاز حقّقه مشروع فلكي مشترك بين مجموعة من المؤسسات العلمية، ضمنها جامعة هارفرد و»الوكالة الأميركية للفضاء والطيران» («ناسا») وجامعة كامبريدج.
مشاركة :