من خلال تحليل معطيات الأدب عرفنا أن الأمويين على سبيل المثال، هم من أدخل إلى الثقافة العربية ملاعق الخشب والخزف والفخار التي كانوا يجلبونها من الصين، وأنهم كانوا يجلسون على الكراسي أمام طاولات خصصت للطعام. العربإبراهيم الجبين [نُشرفي2016/11/18، العدد: 10459، ص(24)] قراءة التفاصيل التي تختبئ في كل الأشياء تسلية ممتعة للغاية. ولا يتوقف حجم الإمتاع فيها على أهمية تلك الأشياء ولا أهمية تلك التفاصيل، بل في التفكيك وحده، الذي ستنتج عنه أشياء لا يعلمها إلا الله. كان العالم قد اكتشف هذا. فعمد إلى دراسة ما يتضمنه شعر شكسبير مثلا من معانٍ تقود إلى أنماط الأزياء التي درجت في عصره، من خلال مسرحياته وسوناتاته. ولجأ بعض المعماريين العمالقة إلى بناء مدن وشوارع ببرامج الأوتوكاد والبرامج ثلاثية الأبعاد، بناء على قصائد لشعراء إغريق قدامى وصفت تلك التصاميم. ثم لاحقا تبعهم سحرة الغرافيك بإعادة بناء جغرافيا التوراة والكتب القديمة حتى لتشعر وكأنك تعيش داخلها. لكن باحثا عرفته يوما، جعل من موضوع الجريش والسميد مادة لبحث طويل عريض في الشعر الجاهلي العربي، ليستنتج بعد جهد أن اللحم كان سيّد المائدة آنذاك، مع أنه لم يكن هناك لا موائد ولا غيرها، ومن تهشيم اللحم جاء اسم هشام بن المغيرة الذي قال فيه صاحبه الحارث المخزومي حين مات أجمل بيت شعر يقوله صديق عن صديقه “فأصبح بطنُ مكةَ مقشعرّا/ كأنَّ الأرضَ ليس بها هشامُ”. ومن خلال تحليل معطيات الأدب عرفنا أن الأمويين على سبيل المثال، هم من أدخل إلى الثقافة العربية ملاعق الخشب والخزف والفخار التي كانوا يجلبونها من الصين، وأنهم كانوا يجلسون على الكراسي أمام طاولات خصصت للطعام. وفي عهدهم كانت للأكل مع الخلفاء والأمراء آداب محددة. فلا ينبغي “أن يتبسط الشخص في الطعام مثلا، لأن الأكل مع عِليَة القوم كان للشرف وليس للشبع”، كما يذكر المسعودي، الذي يضيف أنّ معاوية بن أبي سفيان كان يُكثر من الطعام، حتى قيل إنه كان يأكل خمس مرّات في اليوم، لكنه لم يكن أكلا لملء البطن. بل لمجالسة الناس ومشاركتهم عقولهم. واستمرّ هذا الاهتمام بآداب المجالسة والطعام وما يخلقانه من أجواء عند العرب حتى القرن التاسع عشر، فكتب خليل سركيس كتابه “تذكرة الخواتين وأستاذ الطباخين” في العام 1885. والخواتين جمع خاتون، أي “سيّدة”، وكانت تستعمل في المشرق العربي حتى عهد قريب. قال سركيس في كتابه “نرى الإنسان يكدّ ويسعى ويبذُل الدرهم والدينار إصلاحا لغذائه. وهو مع ذلك يفوّض هذه المهمة إلى جارية غبيّة، ويحوله إلى عُهدة خادمة هي بالحري بَلِية. هذا وفي صناعة الطِباخة اقتصاد وفير، فمن أحسن الإدارة، وأَحكَم الصناعة، أفاد الأجسام والأموال معا”. أما حين قرر أحد المسؤولين السابقين في المؤسسات الأدبية العربية، اتباع هذه المدرسة التفكيكية، فلم يبحث في العمارة ولا في الطعام، بل وجد ما اعتبره أمرا هاما جدا ليكون أطروحته في الدكتوراه؛ فكان عنوان أطروحته “ألعاب أطفال الشوارع في العصر العباسي من خلال الشعر والنثر”. فأوقع الجميع في حرج، وخاصة المنافقين، فلم يكن أحد يستطيع امتداحه وحتى مجاملته؛ إذ ماذا سيقول له المنافقون؟ لقد اكتشفت ألعابا مثيرة؟ لعبة الخط على تراب الطريق كانت تكتيكا سياسيا مبكرا؟ حضرتك نقلت لنا ثقافة شوارعية عظيمة؟ ماذا سيقولون؟ إبراهيم الجبين :: مقالات أخرى لـ إبراهيم الجبين للشرف لا للشبع, 2016/11/18 مناهج الأزهر ونهج العنف, 2016/11/13 تفاحة ترامب , 2016/11/11 أطفالكم وصفعة غاوس, 2016/11/04 يوفال نوح هراري عالم مستقبليات إسرائيلي يتنبأ بأننا سنقهر الموت قريبا, 2016/10/30 أرشيف الكاتب
مشاركة :