الحظ العاثر

  • 3/20/2014
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

إذا كانت الحروب للمجتمع الإنساني آفةً، فإنّها للتاريخ قُوْتٌ. من هنا الفتنة التي تستهوي ملّتنا كروائيّين. فمعاندة الآفات إذا كانت لنا حرفةً ، فإنّ ما يُطعم التاريخ قُوْتاً هو لنا بمثابة الحافز. والبرهان هو «الإلياذة» كأوّل متن مرجعيّ في تاريخ الآداب. ويجب أن نعترف أن حضور الروح الملحميّة في الأدب إنّما يرجع الفضل فيه للحرب، لا على المستوى الحرفي المبثوث في اللغة وحسب، ولكن على المستوى المجازي الذي يستنهض الجموع ليختزل الحمق البشري مترجماً في مفهوم لا يخلو من إغواء وهو: القيّامة! فكلُّ حربٍ هي قيّامة. فإذا صارت حرباً عالميّةً، فهي حتماً قيّامة عالمية تعادل القيّامة الغيبيّة التي تفتننا دائماً، لأنّها تكشف لنا عورة وجودنا الهشّ: وجودٌ مهدّدٌ دوماً رغم أوهامنا في وجودٍ خالدٍ وزوالٍ بعيد الاحتمال. فرغم ويلات الحرب، رغم شبح الموت الذي ينتظرنا بنشوب الحرب، بيد أن الحرب تغوينا. وما يغوينا هو ما يستثير فضولنا لكي نحيا دون اعتبار للنقيض الذي يخفيه ما يغوينا؛ ربّما لأن حياتنا ليست سوى حرب. حرب حقيقيّة قد لا تنزف فيها أجسادنا الدّماء، ولكنّنا ننزف فيها ما هو أعظم شأناً من الدمّ وهو: الروح! لأن النزال الذي تُسفَك فيه الدماء يبدو هيّناً إذا قيس بالعناء في حياتنا اليومية الذي ننزف فيه روحاً. والدليل أن الجراح النفسية في تجربة أي حرب تبدو في رؤية الروائي أعظم شأناً بما لا يقاس بالمقارنة بجراح الجسد. فأن يقتل الإنسان أخاه الإنسان في مواجهة حربية ليس موضوعاً يمكن أن يستهوي الروائي ليحفّزه إنجاز العمل التراجيدي، ولكن أن يقتل الأخ أخاه في تجربة دموية كما يحدث عادةً في الحروب الأهليّة فهنا يوجد كنز. هنا النواة لإنجاز «عمل خالد». أقول عمل خالد لا لأنّه استعادة (أو استعارة) للأمثولة الدينية المترجمة في سيرة قابيل وهابيل وحسب، ولكن للتعبير شعرياً عن ورم عميق الحضور في النفس البشرية كالحسد الذي أودع المقابر أكثر مما أودعها الطاعون سواء في هويّته السالفة أو في صورته الحاضرة. إنه نموذج الجلاّد في علاقته الأزلية بالضحية الذي أنتج أعظم الأعمال الروائية في تاريخ الأدب العالمي لا من خلال الحروب الأهلية وحسب، ولكن من خلال الحروب إجمالاً. ويجب أن نلاحظ أنّ حظّ الحرب العالمية الأولى في الرواية لم يكن عاثراً على مستوى العالم العربي وحده، ولكن على مستوى الأدب العالمي أيضاً، في حين استأثرت الحروب الأهليّة بنصيب الأسد على مستوى العالم، ولم تكن ليبيا لتكون استثناءً، لا سيّما إذا علمنا تزامن هذه الحرب مع حرب استنزافٍ طويلة النَفَس إبّان الغزو الإيطالي لليبيا استمرّت من 1911 إلى تاريخ إعدام عمر المختار في بداية الثلاثينيّات. وهو ما لن يبرّئ مسؤوليّتنا كروائيين لأن تقاطع الحربين (العالمية في تزامنها مع الليبيّة) من شأنه أن يثري التجربة بما لا يقاس، لا سيّما إذا حكّمنا التاريخ الذي يحدّثنا في وثائقه المصوّرة كيف تطوّع بعض القادة الأتراك للقتال مع الليبيّين حتى بعد معاهدة سويسرا التي تنازلت تركيا بموجبها عن ليبيا لمصلحة إيطاليا في 1912 أمثال مصطفى كمال أتاتورك الذي عمل تحت إمرة أنور بك في معسكرات المجاهدين الليبيين المرابطين على درنة قبل أن يحلم هذا الإنسان بأن يكون الأب الروحي لتركيا الحديثة. وقاتل عزيز المصري مع معسكرات المجاهدين المرابطين على مشارف الكويفية ببنغازي لينقلب تالياً على الأتراك ليقود التمرّد ضدّ تركيا في الحجاز كما يحدّثنا لورانس العرب في «أعمدة الحكمة السبعة». بلى! الحرب الأولى وما رافقها من حروب أخرى محلية جديرة بروايات لا رواية واحدة لو كنّا نعيش أعماراً لا عمراً واحداً.

مشاركة :