عاشت تونس أول من أمس حدثاً غير مسبوق مع انطلاق الشهادات العلنية الأولى لضحايا الاستبداد في عهدي الرئيسين الحبيب بورقيبة (1956-1987) وزين العابدين بن علي (1987-2011). وتُشكّل الشهادات الشفوية مادة لكتابة تأريخ آخر، مُختلف عن القراءة السائدة عن الحقبة التي امتدت ستة عقود. وتُعتبر التجربة التونسية في مجال العدالة الانتقالية الثانية عربياً بعد المغربية، التي حملت عنوان «الإنصاف والمصالحة»، والتي شابها كثير من النقائص. والأرجح أن التجربة التونسية لن تكون خالية من النقائص أيضاً، إذ ستكون الشهادات العلنية، التي لن تُبث مباشرة على شاشات التلفزيون، محكاً لمعرفة مدى حياد «هيئة الحقيقة والكرامة» وحرفيتها. ويُعرِّف رئيس المركز الدولي للعدالة الانتقالية تولبارت ديفيد هذا المفهوم الجديد على العرب بكونه «فلسفة ومنهجية، هدفهما معالجة ميراث انتهاكات جسيمة، ومساعدة الشعوب على الانتقال في شكل مباشر وسلمي وغير عنيف إلى الديموقراطية». ومنذ إطاحة النظام السابق في تونس، منحت النخب اليمينية واليسارية على السواء موضوع العدالة الانتقالية أهمية كبيرة، باعتبارها رُكناً أساسياً من أركان الانتقال الديموقراطي. وتجسّد هذا الاهتمام بإحداث هيئة الحقيقة والكرامة في أواخر 2013. لكن بقدر الإجماع على ضرورة هذه الآلية وحاجة البلد إليها بُغية «محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات والتعويض للضحايا وردِّ الاعتبار لهم»، مثلما جاء في القانون المُحدث للهيئة، تباعدت المواقف من تشكيلة أعضائها وملابسات تكوينها وأداء رئاستها. ويمكن اختزال المآخذ التي أثيرت وما زالت تُثار حولها في النقاط الجوهرية التالية: 1- التكوين تمَ إحداث هيئة الحقيقة والكرامة في نهاية 2013 بعد تصديق المجلس التأسيسي (الجمعية التأسيسية) على «قانون العدالة الانتقالية». وحُدِّدت مهامها بـ «الكشف عن حقيقة انتهاكات حقوق الإنسان طيلة الفترة المُمتدّة من أول تموز (يوليو) 1955، (أي بعد شهر من حصول تونس على الحكم الذاتي)، إلى 31 كانون الأول (ديسمبر) 2013» (أي تقريباً تاريخ إنشاء الهيئة نفسها). وبدأت التشقّقات تظهر على جدارها منذ تشكيلها وتوزيع المسؤوليات بين أعضائها، إذ كان خروج الوجه الحقوقي البارز خميس الشماري منها «لأسباب خاصة» ضربة قوية لصدقيتها، لاسيما أن المعايير الموضوعية كانت تُبوئه اعتلاء رئاسة الهيئة، بحكم معرفته بتجارب عدة في مجال العدالة الانتقالية، بينها تجربتا المغرب وأفريقيا الجنوبية، وهما من التجارب العالمية المُهمة في هذا المجال. ثم توالت الاستقالات والإقالات حتى كادت تشمل نصف أعضاء الهيئة الأصليين (بقي تسعة أعضاء فقط من أصل 15 عضواً). وتم الاحتكام في بعض الإقالات للقضاء، الذي أبطل قرار إعفاء زهير مخلوف نائب رئيس الهيئة من مهامه. غير أن رئاسة الهيئة ما زالت ترفض تطبيق القرار القضائي إلى اليوم. وهذا يدلُ على محدودية الصفات القيادية للرئاسة وافتقارها للقدرة على التجميع. ولا يمكن فصل تشكيل الهيئة عن سياقه التاريخي المتمثل في سيطرة «الترويكا»، وتحديداً «حركة النهضة»، على حقيبتي العدل والعدالة الانتقالية، وهو ما ستظهر بعض تجلياته في ميل الهيئة إلى عائلة سياسية دون العائلات الأخرى من ضحايا النظام السابق. وستكون حصص الشهادات العلنية الأولى المُقرّرة ليوم 18 من الشهر الجاري محكاً لمعرفة مدى ميلان الكفة إلى طرف دون آخر. 2- الأداء لم تُباشر الهيئة تلقّي الملفات والشكاوى إلا في 15 كانون الأول 2014، وفي حين كان مُقرراً أن تنتهي من تلك العملية في 15 كانون الأول 2015 قررت تمديدها إلى 15 حزيران (يونيو) 2016، علماً أن القانون حدّد مدة عمل الهيئة بأربع سنوات قابلة للتمديد مرة واحدة ولسنة واحدة فقط. وأسباب هذا التأخير مزدوجة فهناك عدالة انتقائية باشرتها حكومة «الترويكا»، قبل تشكيل هيئة الحقيقة والكرامة، إذ تفاوضت مع رجال النظام السابق وبعض رجال الأعمال المُقربين منه على تسويات تحت الطاولة، ما ألقى ظلالاً كثيفة في وقت مُبكر على مسار العدالة الانتقالية. وتمثل السبب الثاني بانشغال رئاسة الهيئة بإدارة المعارك الداخلية والبحث عن المظاهر، وهو ما جعل التعاليق السلبية تطغى على متابعة وسائل الإعلام أعمال الهيئة. 3- معضلة الوثائق منذ أن أرسلت الهيئة شاحنات إلى قصر قرطاج (مقر الرئاسة) لتسلُّم وثائق رئاسة الجمهورية، والمراقبون يتساءلون عن سر الإصرار المُتكرِّر على جمع الوثائق ذات الطابع السياسي والمالي، وتحديداً عن احتمال وجود رابط بين هذا المسعى والعلاقات المُتوترة بين رئيسة الهيئة ومسؤولين حاليين في الدولة، وكذلك خصوماتها مع نشطاء سابقين في الحركة الحقوقية. وهذا يستدعي العودة إلى التذكير بالمعاني الأصيلة للعدالة الانتقالية بوصفها لا تنبني على الثأر والانتقام، وإنما على الوصول إلى حل وسط بين الحاكم السابق والمحكوم، بين مُقترفي الانتهاكات وضحـــايـــاهم. وهي بـالأحرى محاولة لمراجعة ما حدث من أجل الخروج منه بطريقة سلمية، بُغية إعادة بناء وطن يسع الجميع في المستقبل، قوامه احترام حقوق الإنسان والديموقراطية وسيادة القانون. بهذا المعنى يُشكل تطبيق العدالة الانتقالية شرطاً ضرورياً لمعالجة ملفات الماضي، ومن ثم التقدُّم إلى الأمام لتحقيق النقلة الديموقراطية المنشودة. فالتعامل مع ميراث الانتهاكات يفتح الطريق أمام مناهج متعددة تشمل، من بين ما تشملهُ، العدالة الجنائية وعدالة جبر الضرر والعدالة الاجتماعية والعدالة الاقتصادية... ولذا فإنها لا تقتصر على محاسبة مُقترفي الجرائم، وإنما ترمي أيضاً إلى الاتعاظ منها لمنع تكرارها في المستقبل. 4- الفرصة الفريدة قبل أيام زار تونس الإعلامي ماكس دوبريز Max du Preez الذي كافح ضد نظام التمييز العنصري في أفريقيا الجنوبية، قبل أن يتولى مسؤولية البث التلفزيوني لشهادات ضحايا ذلك النظام. وذكر دوبريز التونسيين بأن مسار العدالة الانتقالية لحظة عظيمة لا تحدث سوى مرة واحدة، ولا يمكن تكرارها ولا مقارنتها بكتابات المؤرخين. وأنقُل من كلامه هذه الجُملة التي تُغني عن أي تعليق أو إضافة، إذ قال «تونس لديها الآن لحظة لكتابة التاريخ. لحظة فريدة من نوعها لتقول: لا نستطيع فعل ذلك من طريق مؤرخ واحد أو كاتب واحد، بل نستطيع كشعب تسجيل كل تاريخنا، ما حدث قبل الثورة وأثناءها، وهذا (التسجيلُ) سوف يبقى. إن أضاعت تونس هذه الفرصة، فلن تأتي مرة أخرى... لن تأتي مرة أخرى. ولهذا عندما يتعلق الأمر بالحقيقة، وعندما يتعلق الأمر بالتاريخ... فنحن نكتب التاريخ الآن». * كاتب تونسي، مدير «المركز المغاربي للبحوث حول ليبيا»
مشاركة :