تقف الأحزاب التقليدية يمينية واشتراكية ديموقراطية (يسارية) المتناوبة على الحكم في أوروبا منذ عقود عاجزة أمام خطر ذوبان وتبخر قواعدها الشعبية، وهي ظاهرة بدأت منذ ثمانينات القرن الماضي، وتسارعت وتائرها خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين في سياق تزايد مظاهر الاستياء والغضب والقرف وفقدان الصدقية والثقة بهذه الأحزاب بسبب فشلها المستدام في التصدي للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية وتفشي الفساد في مؤسسات الحكم والتي تتفاقم مع تعمق العولمة وما احدثته من تغيّرات وتأثيرات وارتدادات عاصفة في المجتمعات الأوروبية. ووفق مجلة «ايكونوميست» فإن «الانتماء إلى حزب سياسي لم يكن ابداً أسهل وأرخص ثمناً مما هو عليه الآن، فقيمة اشتراك العضوية في الحزب الاشتراكي الفرنسي لا تتعدى مبلغ العشرين يورو في العام، ويبلغ الاشتراك السنوي في حزب المحافظين البريطاني 25 جنيهاً فقط، هذا فيما لا تشترط الكثير من الحركات والتنظيمات السياسية الجديدة على منتسبيها دفع اشتراك سنوي مقابل العضوية، فحزب الشاي الأميركي الذي مثل حالة تمرد على الاستابلشمنت في الحزب الجمهوري على سبيل المثال جعل الانضمام له مقتصراً على التسجيل في موقعه على الانترنت. وترى الاستاذة في جامعة لايدن الهولندية انغريد فان بزين «أن العوامل التي ساهمت في صعود دور الأحزاب التقليدية لم يعد لها وجود، واحتمالات بروزها مجدداً تبدو ضعفية للغاية». وتشير نتائج دراسة أعدها معهد دراسات الديموقراطية في صوفيا الى تقلص العضوية في هذه الأحزاب خلال السنوات العشر الأخيرة في ألمانيا بنسبة 20 في المئة، وفي السويد 27 في المئة وفي النرويج 29 في المئة، وفي بريطانيا 36 في المئة». ويتضح من استطلاع أجراه مركز «سيفيبوب» الفرنسي للأبحاث السياسية في «سيانس بو» أن «12 في المئة من الفرنسيين ليست لديهم ثقة بالأحزاب السياسية القائمة»، فيما رأى 67 في المئة ان الديموقراطية في فرنسا تتعثر ولا تتحقق في شكلها الأمثل. إلا أن دراسة أخرى نشرت نتائجها أسبوعية «كابيتال» الصادرة في صوفيا كشفت عن ثبات قوة ودور هذه الأحزاب في النمسا، وزيادة طلبات العضوية في إيطاليا وذلك في شكل يترافق مع ظهور حزب «رابطة الشمال» يتبنى توجهاً عنصرياً معادياً للمهاجرين والأجانب والعولمة. أما في الولايات المتحدة حيث يتمتع السكان بحرية التعبير عن ميولهم الحزبية عند تسجيل أسمائهم في اللوائح الانتخابية، فلقد لوحظ حصول ارتفاع ملموس في أعداد الناخبين المتهربين عن تسجيل انتماءاتهم الحزبية مفضلين وصف انفسهم بـ «المستقلين» إذ وصلت نسبتهم الى رقم قياسي هو 40 في المئة، بما يمثل برأي الباحث في مركز دراسات الديموقراطية «حالة جديدة غير مألوفة، لأن حصة الناخبين المستقلين تشهد عملياً خلال الانتخابات الرئاسية انخفاضاً». وذكرت «كابيتال» نقلاً عن نتائج استطلاع للرأي أجري في الولايات المتحدة العام 2012» أن نسبة المسجلين كمستقلين في الولايات المتحدة ارتفعت الى 44 في المئة بزيادة قدرها 9 في المئة مقارنة بالفترة ذاتها خلال الحملة الانتخابية العام 2008. يرى المحلل الفرنسي جان –بابتيست دي مونفالون «أن الأحزاب المهيمنة لم تخسر مكانتها، ولكنها تمسك بمقاليد حياة سياسية عبثية، ما يؤدي الى أزمة مجتمعية، وهو ما تستغله الأحزاب الشعبوية للترويج لفكرة التخلص من كل وسيط بين الشعب والسلطة، داعية الى «نقاش مباشر» مع الشعب». فردية وحراك عفوي تعيش المجتمعات الغربية الآن في زمن الفردية والحراك العفوي المتبدل والذي يتجسد في تغير السلوك الاجتماعي والعائلي والانتخابي، في وقت تتمسك وتحافظ الأحزاب التقليدية على نهج يعود الى فترة تشكلها وظهورها في مرحلة الثورة الصناعية التي كانت مجتمعاتها مختلفة عن مجتمعات العولمة الحالية جذرياً. ويقول استاذ العلوم الاجتماعية في جامعة بولونيا بييرو إيغناتسي: «لم يبقَ من هذا الزمن الآفل، حين كان الحزب يمثل رحم الهوية والثقافة السياسية غير صور متقادمة وباهتة الألوان» إذ «تلح المجتمعات ما بعد الصناعية على أن يقوم كل شخص بإعلان ميزاته وتفوقه العلمي أو المهني وغيره». وخلصت دراسة أعدتها مؤسسة جان – جوريس قبل الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة الى «أن أكثر من ثلثي الناخبين (في عينة الدراسة) عدلوا عن انتخاب مرشح من المرشحين قبل ستة أشهر من الانتخابات». ويرى مدير مركز الدراسات الدولية والبلقانية، واستاذ العلوم السياسة في جامعة صوفيا البروفسور اوغنيان منتشيف ان «انهيار الأحزاب التقيلدية في أوروبا يرتبط بمجموعة من العوامل تبلورت خلال العقود الأخيرة، أولها: تقدم العولمة تحت هيمنة سياسة السوق النيوليبرالية، بحيث أن السياسة الاقتصادية لم تعد تمثل سباقاً بين اليمين واليسار، بل صفقات او توافقات بين جميع الأحزاب السياسية بغض النظر عن توجهاتها الايديولوجية تتماشى مع منطق وآليات السوق المعولم، وبهذا فإن هذه الأحزاب أصبحت في عيون الناخبين متشابهة، بل وحتى متواطئة في ما بينها ضده ومتنكرة عملياً لما تتبناه وتروج له من برامج اقتصادية واجتماعية. وثانياً: ان كل الأحزاب في أوروبا أخضعت اختلافاتها الايديولوجية لمبادئ ومفاهيم ما بعد الحداثة الليبرالية التي تتأسس على مفهوم التعددية الثقافية، والمحاباة السياسية، وعلى رغم أن هذا يعبر عن حالة متطورة في الإنسانية في الغرب من احترام وصيانة الحقوق والكرامة الانسانية، لكنه برأي أفراد وفئات وهيئات دينية أخذ يتعدى الحدود المقبولة اخلاقياً ودينياً، إضافة الى أن الأعداد الكبيرة من اللاجئين والمهاجرين الذين لاذوا بأوروبا يرفضون الاندماج في مجتمعاتها واحترام قيمها وثقافة المجتمعات الغربية التي وفرت لهم الحماية وحقوق المواطنة والكرامة الانسانية التي حرمتهم منها حكومات بلدانهم. ثالثاً: موافقة الأحزاب الأوروبية ضمنياً على أن يكون التمثيل الديموقراطي على المستوى الوطني في المؤسسات الأوروبية مقتصراً على البرلمان الأوروبي المنتخب، فيما الحكومات الوطنية هي التي تختار وتنتدب ممثليها الى المفوضية الأوروبية التي تمثل الحكومة الأوروبية التي مقرها بروكسيل وهي التي تتخذ القرارات التي يجب أن تلتزم بها الحكومات الوطنية في الدول الأعضاء، ما يعني عملياً أن النخب السياسية الوطنية تعقد الاتفاقات في ما بينها من دون مشاركة المواطنين وتتخذ قرارت تكون في كثير من الأحيان متناقضة مع رغباتهم». استبداد الزعماء تنبهت هذه الأحزاب الى التحديات والأخطار التي تواجهها وسارعت الى إنشاء مراكز بحوث فكرية وسياسية وجيـــوسيـــاسيـة واستـــراتيــجــيــة تتولى مهمة البحث في أوضاعها التنظيمية ومنظومات أفكارها وأنظمتها الداخلية وبرامجها العامة في محاولة لاكتشاف الاختلافات والفروق بين الأحزاب الجديدة الناهضة. إلا أن الشيء الذي لم تدركه قيادات هذه الأحزاب ويعد معضلتها الأساسية برأي غالبية المحللين هو عدم قدرتها على التكيف مع عالم مجتمع الاتصالات وشبكات التواصل الاجتماعي، وإخفاقها في التقاط وفهم آليات التشظي الحاصل في المجتمعات الغربية وغلبة الفردية في السلوك بفعل العولمة التي تسببت في حدوث قطيعة مع الأواصر التقليدية التي كانت برأي مدير مركز الأبحاث التاريخية في سيانس بو، مارك لازار» تجمع الأفراد تحت رايات الديانة او الطبقات الاجتماعية او الحرف المهنية». ويقول: «أن الأحزاب تمثل الجماعة وهذه تناثرت وتفرقت، ذلك أن النموذج القديم المألوف المتمثل في العائلة، البيت، وتوريث المهنة من الأب الى الابن والحفيد كان يتطابق مع الأشكال السياسية المتناغمة مع مجموعات متجانسة من الناحية الاجتماعية قد انتهى عملياً». وينبه دارس الاجتماعيات الايطالي الألماني الأصل روبرت ميشلز الى مسألة في غاية الأهمية وهي «ميل الأحزاب الى مصادرة السلطة» محذراً مما سماه «تنامي النزعات في الأنظمة الديموقراطية الى الاوليغارشية ما يجعل الناخبين يخشون من احتمال أن تغدر الأحزاب بهم وتكف عن تمثيلهم في الحكم وتذهب لعقد صفقات على حسابهم لتحقيق مأربها ومصالحها، والإساءة الى الأمانة». النيوميديا وأمزجة الناخبين تراكمت لدى الفئات المجتمعية المتعددة خلال العقود الأخيرة هواجس ومخاوف انتقلت مع ظهور النيوميديا وانفلات السيطرة والتحكم في أمزجة الرأي العام عبر وسائل الإعلام التقليدية التي تمولها وتوجهها الأحزاب بدعم من الاوليغارشية التي تعد من الناحية العملية الحاكم الفعلي من وراء الكواليس الذي يغذي انحرافات السياسيين وينشر الفساد بين المسؤولين في الدولة والسلطة والمؤسسة القضائية ويزيد من تحديهم لسلطة وسيادة القانون، هذا كله أدى الى فيضان الغضب الشعبي الذي وجد في وسائل التواصل الاجتماعي سلاحه الوحيد وهو الأعزل في مواجهة الحكام والساسة الفاسدين. يقول البروفسور روسيل دالتون من (University of California,Irvine ) أن «السياسيين قبل 40 سنة كان بوسعهم الاعتماد على وسائل الاعلام الكلاسيكية، وهذا لم يعد ممكناً مع ظهور الإنترنت وما يوفره من امكانات امام كل سياسي مغمور او اي شخص يرغب في خوض المعترك السياسي ويجد الكثير من الناخبين انه المفضل للتعبير عما ينتابهم من مشاعر وهموم ومطالب مقارنة بالسياسين من الأحزاب التقليدية». شهدت الأحزاب السياسية في أوروبا تحولات أساسية وهيكيلة جذرية على صعيدي التأسيس والأفكار، حيث برز نموذج الحزب الشعبي بعد الحرب العالمية الثانية ليمثل ويضم في صفوفه شبكة واسعة من الفئات الاجتماعية في الدول الغربية، وهذا حصل تحت تأثير التبدلات الاجتماعية والاقتصادية الحاصلة بقوة اقتصاد المعلومات (information economy) والعولمة. ويشير الباحث فلاديمير شوبوف من (Bulgarian Institute of International Affaris ) الى «ان غياب الاجماع اوالتوافق حول الحد الأدنى من القرارات السياسية المصيرية في ما يخص الملكية المختلطة للاقتصاد ومعايير الرفاه الاجتماعي والوحدة الأوروبية يعد من بين العوامل التي ساهمت في أزمة الأحزاب التقليدية، فضلاً عن أن السنوات العشر الأخيرة شهدت عمليات سياسية متواصلة أسفرت عن بروز مؤشرات محسوسة تدل على ميل المجتمعات الى الولاءات القومية الضيقة كما شاهدنا في تصويت البريطانيين للخروج من الاتحاد الأوروبي وتصويت الأميركيين الى الشعبوي ترامب، وهزيمة ائتلاف مركل أمام حزب «البديل من أجل ألمانيا» الشعبوي الذي لم يتعدَ عمره ثلاثة اعوام، وذلك في انتخابات بعض الأقاليم التي أجريت قبل أشهر معدودة، وقبل ذلك ظهور حركات مماثلة في بولندا وهنغاريا وفرنسا وبلغاريا وغيرها. ويضيف: «من سمات تلك الدلائل على سبيل المثال الارتداد الى حالة التشوش الاقتصادي التي سببتها العولمة وتسونامي المهاجرين واللاجئين من الشرق الأوسط وأفريقيا ومن بعض دول أوروبا الشرقية والبلقان التي تعاني هي الأخرى الفشل بعد أكثر من عقدين على سقوط الأنظمة الشيوعية، كذلك جرائم داعش الإرهابية».
مشاركة :