هذه التدوينة باللهجة العامية المصرية صديقي الذي أعرفه منذ سنوات الدراسة أكثر من عرفتُهم شغفاً بما يحب، وتلك نعمة تستوجب الشكر. شغفه بالفن السينمائي يصل لحد الجنون؛ يمكنه الجلوس ساعات يتحدث عن أفلام هوليوود وقصص النجاحات والفشل، الأخطاء الإخراجية والمشاهد التي لا تُنسى. هدفه الذي لا يراه بعيداً هو الأوسكار.. يريد أن يكون شخصاً مؤثراً سينمائياً ينشر فكره الخاص عبر أفلامه، وخاصة في العالم الهوليوودي الساحر. أرسل إليَّ رسالة بأنه أنهى كتابة قصة فيلم جديد يسعى لإنتاجه عبر شركات أميركية، وطلب مني أن يقرأه عليَّ. اتفقنا أن يأتيني في منزلي ونعقد جلسة الاستماع المنشودة التي سأقوم فيها بدور الناقد! ظل ساعاتٍ يقرأ عليّ قصة فيلمه الجديد: شخوص ثلاثة رئيسية، رجل وزوجته ورجل آخر من أصول إفريقية، لم يكن يقرأ؛ بل كان يؤدي كل شخصية بنبرة صوت مختلفة، فكان الأمر أشبه بالاستماع لفيلم إذاعي، حيث اختزل صوتُه التفاصيل الدرامية كافة. انتهينا من جلستنا التي تخللتها بعض النقاشات، لكنه طلب مني أن أخبره برأيي فيما سمعته وبصورة محددة، ليس من الناحية الدرامية، ولكن من الناحية الأخلاقية. استغرق الأمر شهراً كاملاً لأناقشه مجدداً، شعرت بعدم الارتياح منذ أن غادر المنزل. القصة قوية ومتفردة؛ تقلبات درامية تستثير التفكير وتتحدى انحيازات المشاهد إلى الأبطال الثلاثة. لكن، ما أثار عدم ارتياحي هو أن القصة تاتى على أرضية هوليوود، تشعر بأنها لأميركي أصيل، حيث العنف اللفظي شديد والتشبيهات الجنسية -المعتادة في الأفلام الأميركية- حاضرة بوفرةٍ وحدّةٍ. دار بيننا الحوار الآتي بالعامية عبر الإنترنت: أنا: كنت على بالي بقالك مدة، عايز اكتبلك رد. هو: سمّعني.. أنا: بدايةً كده، الفيلم من حيث الشكل فكرته حلوة وجديدة. هو: خُش في التقيل :) أنا: المضمون حلو جداً، وهو المعضلة الأخلاقية ومين معاه حق ومين وحش، ودى فعلاً معضلة البشر كلهم. مشكلتي، وقلتلك عليها وقتها، التعبيرات الجنسية كتيرة جداً وأُوفر. هو: بشكل عام.. ولّا عشان معرفتك بي أنا تحديداً؟ انا: الاتنين، عامةً أمّا بتْفرّج على فيلم بحس بحاجة غلط لإنه كده كده أي فيلم فيه عورات مكشوفة فعن نفسي معرفش الحد الفاصل في موضوع الحلال والحرام في الفن. يعني لو طلّعت فيلم محتشِم بس فيه عورات تمام؟ طب لو عورات وشوية زيادة؟ طب لو عورات وكلام جنسي في سياق الشتم والزعيق والقصة؟ هو: أنا فيلمي مفيهوش غير (ألفاظ) جنسية فقط.. واخد بالك من النقطة دي؟ أنا: آه واخد بالي، بس الألفاظ بتدى معاني.. هو: صح، أنت بتفكر بنفس تفكيري في النقطة دي. أنا: يعني ممكن تجيب اتنين بيقبّلوا بعض أحسن ما تجيب راجل بيزعق لمراته ويقولها (.......) وده مجرد كلام. هو: أيوا جملة (......) كنت بفكر أشيلها مش عشان جنسية بس.. عشان مبتذلة، بس كنت بفكر إنها تتحط ذروة للنقاش ويتبعها عنف، بالتالى لازم تكون صادمة. أنا: اللي ضايقني في الفيلم، إنه مكتوب على أرضية أميركية، مش انت اللي كاتبه، بغض النظر عن الفكرة وإنها متفردة وطريقة معالجتها. بس أي حد من أميركا هيكتب كده ويمكن أكثر هدوءاً. سؤالي: إنت مين؟ هو: كلامك عاجبني على فكرة، مش بعترض عليك خالص، بناقشك بس. أنا: بس بردو بقول لنفسي عشان الفيلم يوصل لازم يكون بنفس اللغة الثقافية للمتلقّي.. فعن نفسي، بقالي شهر بفكر هأقولك إيه. عشان في النهاية إنت هتقولي: تمام، إيه العمل؟ أنا فعلاً مش عارف. فبطرح معاك أفكاري. يعني إنت عشان مسلم هتطلع البطلة محجبة وبتقول: أخي الكريم وبتغضّ بصرها؟! ولّا عشان توصل تجيب واحدة جوزها بيزعقلها ويقولها (......)! أنا: غير أساساً إن الدراما سحر، الأفلام بتتلاعب بيك وبتخلّيك متضامن مع البطل وهو بيعمل كل أفعال الشر، المخرج والمصور والمؤثرات. يعنى أنا لسه متفرج على فيلم ليون، فيلم رائع بس بتتعاطف مع واحد على الجانب الآخر من مبادئك. شر وشر مركب وخير مش في دور البطولة، مجرد إنسان على الهامش فبيموت عادي. تلاقي نفسك في الآخر مش عارف إنت مع مين. هو: أنا بقالي فترة مسيطر على إني لازم اعمل فيلم جيد بغض النظر عن أي شيء، فيه حدود أكيد، بس واسعة، فيلم ميمنتو مثلاً فيه مشهد عري، هل لو عندي فرصة أعمل الأعمال دي وبعدها أعمل اللي أنا عاوزه هاعمل كده ولا لا، هل الناتج يستحق؟ بس مؤخراً فكرت إن مجرد اعترافي بعجزي عن عمل فيلم غير مخالف لما أؤمن به وناجح في نفس الوقت هو عجز إبداعي. شخصياً، أرفض الاعتراف بده، الفكرة ضايقتني. مثلاً فيلم ويب لاش، فيلم تاني اسمه سيباريشن -إيراني- كسّر الدنيا في أميركا وكسب "أوسكار"، الناس دى مش أذكى مني عشان تعمل فيلم محترم وناجح. هو: عشان كده هاركز في الفكرة التانية اللي قلتلك عليها، فكرت أصلاً أبيع الفيلم ده باسم مستعار، ناس كتير بتعمل كده. آخد فلوس، ثانياً الفيلم يبقى اتعمل والناس شافته، بس ميتنسبش ليا لو قررت أعمل فيلم على مبادئي في المستقبل لإن فكرة الفيلم ده مريضة بنسبة لا بأس بها. أنا: ده على أساس إن ربنا مش هياخد باله مثلاً! هو: أعتقد في وسط العالم اللي إحنا عايشين فيه قدرة فيلم زي ده على إحداث فساد ضعيفة جداً. أنا: إحنا مبنعملش الغلط عشان تأثيره ولّا عشان هو غلط؟ هو: دي فكرة شاغلاني من فترة، إيوا منعملوش عشان هو غلط، بس جائز أنا مهووس بفكرة التأثير لأن دي النقطة الرئيسية في الأفلام. أنا: خلي بالك، إنت نيتك تعمل خير والهدف ده كاد يخليك تعمل حاجة ضد مبادئك. هو: صح، بس حتى في حياتى مش بهتم أوي بالمعاصي غير المتعدية، اللي مبتأثرش على حد تاني. أنا: مفهوم لأنك بشر في النهاية. هو: تمام، نفس الفكرة، عملت خطأ مقارنة بالصواب المطلق، لكنه في عالم اليوم أقل من العادي. هو خطأ بالنسبة لي فقط. أنا: افتراض كونه غير متعدي افتراضك أنت، المشكلة هو فعل أمر خطأ بذريعة أمر صواب. هو: معاك، بفكر.. تمام توقفنا عند هذه النقطة، تركته لأفكاره وإعادة ترتيبها وسعيه وراء هدفه، أبلغته ما بداخلى ولا أعلم ماذا سيفعل. هل عجزنا عن التعامل مع الحداثة والمعاصرة بمبادئنا الدينية والأخلاقية؟ ما زلنا إلى الآن نعيش أزمات الدين والسياسة وطبيعة العلاقة بينهما، ما زال النظام الاقتصادي في بلاد الإسلام تابعاً للنظام العالمي: يأتي الشيخ في مسجده يخبرك بأن هذا ربا فاجتنِبْه ويخبرك بآيات الحرب من الله ورسوله، وتبقى أنت في منتصف الطريق لا تعلم ماذا تفعل بأموالك؛ قلّت أو كثرت. أضف إلى ذلك، الفن وأدواته بأنواعها. هل أتت المبادئ والأخلاق لتجعل الحياة رحلة صعبة على من يتبعها بينما يتمتع كل من تحلل منها، ربما. وربما يجد صديقي الحل.. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :