شخصية الشيخ حسني في فيلم الكيت كات للمخرج داود عبدالسيد كانت أشهر أدوار الممثل المصري الراحل وأكثرها رسوخا في ذاكرة الجمهور. العربأمير العمري [نُشرفي2016/11/20، العدد: 10461، ص(10)] عصر محمود عبدالعزيز عصرنا وعصر الصراع ما بين الهزيمة والبطولة القاهرة - ربما لم يكن الممثل المصري محمود عبدالعزيز، الذي رحل عن عالمنا مؤخرا، يمتلك، في البداية، من الموهبة ما يؤهله لتحقيق كل ما حققه من نجاح، أصبح فيما بعد، نجاحا أسطوريا لدى جمهور السينما والتلفزيون في مصر والعالم العربي. جاء محمود عبدالعزيز إلى عالم التمثيل معتمدا أساسا على ملامحه الشكلية الجذابة، وعلى نوع من البراءة الطفولية التي تميز بها وجهه، فحصره المنتجون أولا في الأدوار الرومانسية الناعمة، قصص الحب والعشق، ميلودرامات الفقد والحزن والألم. لكنه سرعان ما انتقل إلى مجال الكوميديا وتألق فيه ثم انتقل إلى أداء أدوار القسوة والشر، ثم إلى الأدوار التي تتطلب مهارات خاصة مع تنويع في الأداء والقدرة على تقمص الشخصيات المركّبة التي تخفي أكثر مما تظهر. وإن كانت تلك الأدوار لم تحظ بشهرة أدواره الأخرى الأقرب إلى الكوميديا الإنسانية وإلا لما أصبحت شخصية “الشيخ حسني” في فيلم “الكيت كات” للمخرج داود عبدالسيد، أشهر أدواره وأكثرها رسوخا في ذاكرة الجمهور، وكانت تجسيدا سينمائيا بارعا لشخصية شيخ كفيف محب للحياة، يعشق المخدرات والنميمة، لكنه يدرك ما يحدث من حوله أكثر مما يدركه الآخرون الذين يتمتعون بنعمة الإبصار. جاء محمود عبدالعزيز إلى عالم السينما والتلفزيون في وقت كان موجودا على الساحة نجوم كبار من أمثال محمود ياسين وحسين فهمي ونور الشريف وأحمد زكي وعادل إمام. كان العصر عصر البطل الوسيم الذي يتمتع بذكاء خاص، وقدرة على السخرية من خصومه وإنزال العقاب بهم في الوقت المناسب. كانت السينما المصرية في سبعينات القرن العشرين وثمانيناته تتميز بصعود تيارين واضحين، أولهما تيار الواقعية المستعادة التي أطلق عليها البعض “الواقعية الجديدة”، وشملت مجموعة من الأفلام التي بدأت في الظهور منذ أواخر سبعينات القرن الماضي من إخراج رأفت الميهي وعلي بدرخان وداود عبدالسيد وعاطف الطيب ومحمد خان ويسري نصر الله. أما التيار الثاني فهو تيار الأفلام التقليدية التي تجمع بين النقد الاجتماعي والسياسي، مع أفلام المغامرة والإثارة البوليسية والميلودراما، وهي أفلام أخرجها مخرجون مثل حسين كمال ومحمد عبدالعزيز وعلي عبدالخالق وأحمد فؤاد وأحمد جلال، ومن الجيل القديم كمال الشيخ وصلاح أبوسيف إلى حين توقفهما عن الإخراج. حرب الخليج الثانية، تلتها موجة سينمائية مصرية كانت معها صورة البطل قد تغيرت كثيرا، وأصبحت بعيدة كل البعد عن الرومانسية القديمة، وهنا كان محمود عبدالعزيز النموذج الأفضل للبطل المهزوم المأزوم، الذي لم يعد يملك سوى استدعاء الماضي الجميل. تداعيات الانفتاح كانت صورة مصر في تلك الفترة صورة غامضة ملتسبة، توحي بتغيرات كثيرة قادمة، لا شك أنها ستلقي بظلالها على علاقة مصر بالعالم وبمحيطها العربي، بل وعلاقة السينما المصرية بجمهورها القديم أيضا. فقد كانت سياسة الانفتاح الاقتصادي التي دشنها الرئيس أنور السادات في منتصف سبعينات القرن العشرين قد قطعت شوطا كبيرا، وأنتجت بالضرورة قيما جديدة تتعلق أساسا بالكسب السريع بأيّ طريقة، وكانت السينما العربية الجديدة، خارج مصر، قد بدأت تطرح نفسها كسينما بديلة للسينما المصرية التقليدية. وهو ما خلق نوعا من المنافسة الجادة. وبينما كان الفيلم العربي غير المصري يعتمد على المخرج-المؤلف كنجم للعمل السينمائي، ظل اعتماد الفيلم المصري على النجوم، لكن صورة النجم كانت قد بدأت تلقى تحديات من جانب نماذج أخرى جديدة، فلم تعد الوسامة أو الجاذبية الشكلية للنجم السينمائي تكفي، فظهر على سبيل المثال أحمد زكي كممثل-نجم لم يكن يتطابق في شكله الخارجي مع صورة النجم الوسيم، ابن الطبقة الوسطى، الناعم الذي يقع في حب فتاة ثم يواجه بعض المشاكل في علاقته بها، إلى أن يتمكن من قهرها والفوز بالفتاة الجميلة. كان هذا هو النجم الذي ظلّ يتربع على قمة السينما المصرية منذ عصر كمال الشناوي وشكري سرحان وصلاح ذو الفقار وحسن يوسف، في ظل وجود نجم شعبي هو فريد شوقي الذي كان قد أصبح “بطل الترسو” كحالة فريدة من نوعها لم ينافسه في نجوميته عبر السنين أحد حتى بعد أن تقدم به العمر واختلفت أدواره. ولم يكن من الغريب بالتالي أن تعدّل السينما المصرية من مسارها. فظهرت أفلام الواقعية الجديدة التي لم تعد تتناول واقعا رومانسيا يسير إلى الأمام، محمّلا بالأمل في التطور الاجتماعي المنشود الذي كان يبشر به عصر عبدالناصر، بل كانت تعكس على نحو ما، التدهور الاجتماعي الذي لحق الطبقة الوسطى، وكيف أصبح ابن هذه الطبقة يواجه تحديات من نوع جديد. فيلم "إبراهيم الأبيض" يرصد حالة العنف والجريمة كانت أفلام تلك الموجة أساسها “البطل المهزوم” أو المنكسر، فقد كانت تعبيرا عن ذلك الانكسار الذي وقع للطبقة في صراعها من أجل البقاء في مجتمع الانفتاح الشرس، فلم يعد ممكنا أن تكون عن انتصار البطل في واقع يهزم طموحاته باستمرار. سقوط الطبقة الوسطى تمثل بشكل جاد وواضح من خلال أسلوب ساخر في أفلام مثل “الصعاليك”، أول أفلام داود عبدالسيد، و”يا عزيزي كلنا لصوص” الذي أخرجه أحمد يحيى، و”العار” لعلي عبد الخالق ثم الأفلام التي قام ببطولتها محمود عبدالعزيز للمخرج رأفت الميهي مثل “السادة الرجال” و”سيداتي آنساتي” و”سمك لبن تمر هندي”. وهي تجربة في الكوميديا الاجتماعية ربما لم تكتمل أو لم تنجح أو أجهضت بسبب بروز تيار عريض كاسح في ثمانينات القرن الماضي وما بعدها عرف بـ”سينما المقاولات” أي تلك الأفلام السريعة الاستهلاكية التي كانت تنتج أساسا لتغذية سوق الخليج بمواصفات ومقاييس جديدة مختلفة. كان تشابك الواقع قد أدّى بالضرورة إلى أن أصبح فن السخرية يفرض نفسه على عدد كبير من الأفلام، تلك السخرية السوداء التي تصل في أفلام الميهي إلى السوريالية أسلوبا ولغة، خاصة في “سمك لبن تمر هندي” الذي نجح فيه محمود عبدالعزيز نجاحا أدى إلى قيامه فيما بعد بدور البطولة في فيلم “البحر بيضحك ليه” لمحمد القليوبي الذي أخرجه عن رواية جورج أمادو، مع تمصير الشخصية الرئيسية ووضعها في قالب سوريالي هجائي ساخر، يعكس اغتراب المثقف واضطراره إلى الانطواء بعد أن تقلص دوره كثيرا في المجتمع الجديد، مجتمع الطبقة الجديدة من “رجال الأعمال” كما يطلق عليهم. أزمة نظام محمود عبدالعزيز نظر إليه في ذلك العصر باعتباره نموذجا للممثل الذي يصلح للقيام بدور البطل الإيجابي الوطني، الذي يقدم خدمات غير عادية لبلاده، وهو ما تمثل في مسلسل “رأفت الهجان” الذي قام فيه بدور جاسوس مصري تمكن من اختراق المخابرات الإسرائيلية (الموساد)، وعاش لسنوات في تل أبيب ونقل الكثير من المعلومات للمخابرات المصرية ولم يكشف الستار عنه سوى بعد وفاته بسنوات في هذا العمل تحديدا. كان نظام الرئيس مبارك في ذلك الوقت، في حاجة إلى أن يرفع من أسهمه لدى الجمهور، كان يريد أن يستدعي الروح الوطنية ويبث الأمل في قلوب أبناء الشعب بعد أن كاد اليأس يفتك بالروح المعنوية بسبب تردي الأحوال الاقتصادية، مع التوسع في تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي التي أدت إلى اتساع الفوارق بين الطبقات بشكل غير مسبوق، ووضعت عديد الملايين من المصريين تحت خط الفقر. ظهر الجزء الأول من المسلسل عام 1987 من إخراج يحيى العلمي، وحقق نجاحا غير مسبوق أدى إلى إنتاج جزء ثان ثم ثالث منه فيما بعد. لكن شخصية الرأسمالي أو “رجل المال” المستغل أسندت أيضا إلى محمود عبدالعزيز في أكثر من فيلم ومسلسل تلفزيوني. كانت صورة البطل التقليدي قد سقطت، ومع تقدمه في العمر ونضجه أكثر فأكثر بدا أن مثل هذه الأدوار المركبة تناسبه أكثر. محمود عبدالعزيز البطل الإيجابي الوطني في مسلسل الإيجابي في منتصف تسعينات القرن العشرين، أي بعد حرب الخليج الثانية، كانت صورة البطل قد تغيرت كثيرا، وأصبحت بعيدة كل البعد عن الرومانسية القديمة بل وعن صورة ذلك البطل الذي يمكنه أن يرد الصّاع صاعين لمن يستغلونه أو يوجّه رسالة قاسية لطبقة اللصوص الجدد كما فعل نور الشريف في “سواق الأوتوبيس″ لعاطف الطيب، أو عادل إمام في “الغول”، هنا كان محمود عبدالعزيز النموذج الأفضل للبطل المهزوم المأزوم، الذي لم يعد يملك سوى استدعاء الماضي الجميل، يعيش أسيرا له ويستدعيه بل ويريد أن يقف ضد التيار ويحاول بلا جدوى، أن يعاكس المسار الجديد في المجتمع من حوله. كان أبرز من جسّد هذا المعنى رضوان الكاشف في فيلم “الساحر”، وفخر الدين نجيدة في فيلم “هارمونيكا” اللذين قام ببطولتهما محمود عبدالعزيز. صراع المتناقضات كان عصر محمود عبدالعزيز عصر صراع بين البطولة والهزيمة، بين فكرة مواجهة الشر بالشر، والعنف بالعنف، وفكرة التشبث بذكريات الماضي وأمجاده، والذي لم يعد قائما، إضافة إلى الانكفاء على الذات تحت ضغوط حاضر متقلب وأحداث لاهثة تتقاطر تداعياتها فوق جلد المجتمع، فتصنع بؤرا عميقة الغور، تستبعد خارج الواقع الملايين من البشر أو “المواد البشرية” من سكان المقابر، هذا التناقض كان قد عبر عنه ببراعة وفي وقت مبكر للغاية، المخرج إبراهيم الشقنقيري والممثل الراحل أحمد ذكي في فيلم “أنا لا أكذب ولكنّي أتجمّل”. لكن يجب أن أستدرك فأقول إن عصر محمود عبدالعزيز على صعيد السينما كان عصر الممثل المتغير المتحول، الذي ينضج مع الزمن وتنضج معه قدراته ويصبح بمقدوره أن يقوم بأدوار أكثر تركيبا وتعقيدا مع التنويع المذهل والانتقال بين الأساليب المختلفة، من الكوميديا والرومانسية إلى فيلم الحركة والشر والجريمة إلى فيلم النقد السياسي والاجتماعي، إلى الفيلم الخيالي، وأن يحافظ على مستواه، ويطوّر من أدائه وطريقته في التعامل مع الدور، ويجتهد ويظلّ محافظا على نجوميته بشكل مدهش، لعدة عقود. تغيرت صورة السينما والعصر كثيرا خلال السنوات العشرة الأخيرة، فقلت أدوار محمود عبدالعزيز وقل حضوره، وعندما عاد في فيلم “ليلة البيبي دول” عام 2008 من إخراج عادل أديب، بدا أنه كان يبحث عن حضور وسط حشد من النجوم في فيلم يتمتع بميزانية ضخمة أهدرت على سيناريو مفكك ضعيف، في إخراج مهترئ بحيث أصبح الكثيرون يتساءلون: ماذا حدث؟ ولماذا؟ هل كانت لديه رغبة في التشبث ببصيص أمل ولو ضئيل، للعودة إلى الأضواء من خلال فيلم “سياسي” يفترض أنه يتناول قضية الإرهاب الدولي؟ أم أن محمود كان بحاجة للعمل بدوافع مادية أساسا؟ لم يظهر محمود عبدالعزيز بعد ذلك سوى في فيلم واحد بعد هذا الفيلم هو “إبراهيم الأبيض” الذي حاول فيه تقديم شخصية تتناسب مع الحالة الجديدة التي صبغت الواقع والتي أصبح يبرز فيه العنف والجريمة. لكنه يقينا كان قد أدرك أن العصر الحالي لم يعد مناسبا له فقد أصبح عصر المضحكين الجدد كما يطلق عليهم، فانسحب في صمت، خاصة بعد أن هاجمه المرض فأقعده وكأنما جاء المرض نذيرا بانتهاء عصر محمود عبدالعزيز وأقرانه من كبار الممثلين الذين أثروا السينما المصرية والعربية بأدوارهم المتنوعة الجريئة، فقد أصبحنا الآن أسرى عصر الممثل ذي البعد الواحد. ورغم وجود المواهب الحقيقية، إلا أنها تنحصر في نمط واحد، أو صورة معيّنة واحدة تتكرر من فيلم إلى آخر. وهي حالة فنية لا شك أنها تنسجم أيضا مع نهاية عصر السينما على نحو ما، وزحف عصر الإنترنت. :: اقرأ أيضاً أليكسي نافالني فتى روسيا الذهبي الذي لا يخاف من بوتين مالك شبل إسلام النور يفقد منظره في ذروة الفوضى الفكرية أبوبكر سالم المغني الذي صنع أسطورته بنفسه
مشاركة :