برتقالة من نار بقلم: سعيد خطيبي

  • 11/20/2016
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

العزلة ليست سوى مقدمة للتّنوع النصّي في ضجر البواخر، فالكآبة النفسية التي يعيشها صلاح باديس ليست سجناً، بل هي هرمون محرض على التّفكير. العربسعيد خطيبي [نُشرفي2016/11/20، العدد: 10461، ص(11)] كان بودلير يعتبر العالم «مستشفى مجانين»، لا همّ لهم فيه سوى تغيير أسرّتهم لقتل الضّجر. هذا التّوصيف يليق بالجزائر العاصمة، هذه السّنوات، مدينة ضجرة، ممّلة، قلقة ومتبرّمة، كما يصفها صلاح باديس في باكورته الشّعرية «ضجر البواخر»(منشورات المتوسط، 2016). في هذا الكتاب، تظهر الجزائر العاصمة كمدينة ثابتة، كئيبة وغير محترّكة، تسكنها «كائنات شيطانية»، قراصنة متقاعدون وريّاس بحر مخصيّون، الميناء يشوّه وجهها، والعشّاق يتوجّسون منها: «تسألنا الحواجز عن أعمار رفيقاتنا، فهي تنزعج من أيادينا المرتاحة على أفخاذهن، تتأكّد من أن الجميع قد بلغ سنّ الرّشد، ثم تطلقنا بخيبة» يكتب صلاح باديس. تتحوّل المدينة من فضاء إلى كائن حيّ، لا رغبة له في العيش، ولكنه لا يريد أن ينتهي قبل أن يأخذه معه العالم كلّه إلى قبر مشترك: «لا بأس أن أموت، لكن فقط أن يموت العالم معي» يضيف. الضّجر الذي يلّون يوميات الجزائر العاصمة يحصل أن يتحوّل إلى «بربرية ناعمة»، تقتات من سعادة النّاس، وتحشرهم بين أزقة وبنايات كولونيالة مسلوبة الرّوح. كلّ الأشياء تغيّرت في عاصمة البلد الأكبر في أفريقيا، وما بقي منها سيتغيّر أيضاً: السّاحات سيّجت، و«سينسى النّاس – كالعادة – أننا عشنا سنوات بلا ساحة»، فالجزائر العاصمة مدينة مُعادية لنفسها، متبرأة من ماضيها، حاقدة على ذاتها، تريد أن تبني أعلى مئذنة في العالم، تتسلّق إلى قمّتها ليسمع الآخرون نداءها، لكنها قط لم تفكّر في أن تستمع لنفسها. في «ضجر البواخر»، تضمحل عمارات الجزائر العاصمة وأرصفتها، طرقاتها الواسعة وشواطئها، وتتحوّل إلى ما يشبه صحراء من الانتظار. «أن تكون في الجزائر يعني أيضاً ألف عام وعام من الحنين والعزلة». لكن قد تتحوّل العزلة إلى فنّ! إلى نصّ، إلى شعر. فقد كانت العزلة محرّكا ليكتب المؤلف باكورته، إنه يقف على أرض جزائرية مزروعة بكلّ مرادفات الوحدة، يلتقط مشاهداته اليومية، ويجعل منها جملا ونصوصاً نثرية. كما لو أن العزلة ليست سوى مقدمة للتّنوع النصّي في «ضجر البواخر»، فالكآبة النفسية التي يعيشها صلاح باديس ليست سجناً، بل هي هرمون محرض على التّفكير. يريد أن يخبر القارئ، في باكورته، أن من يريد فهم الجزائر العاصمة عليه أن يفهم أولاً عزلتها، وحالاتها المتخمة سأماً. السأم ليس يعني – بالضرورة – الحزن! فالمؤلف يخاطب رفيقته: «المهم أن تعيشي. أن تعزفي لا أن تحمي غيتارك. أن تولد في الجزائر وتتربى في التسعينيات ستعرف أنه لا وقت للحراسة. اعزف وحارب بغيتارك في نفس الوقت«..» اللحن سيبقى في قلبك والجروح ستطيب». الضّجر هو موضة من موضات الجزائر العاصمة، هو وجهها الحسن، هو شريكها الذي تخون معه عشّاقها. في «ضجر البواخر»، القارئ لن يجد جزائر ألبير كامو ولا جزائر أغنيات «الشّعبي» الفرحة، سيجد جزائر أخرى، رمادية، منفصلة عن سنوات بهجتها، لا شيء يذكّرنا بطفولتها سوى الشّمس العالقة في سمائها. «الشّمس برتقالة من نار» كما كتب صلاح باديس. شمس تحرس ماء المدينة، ومينائها وحقدها على نفسها. في باكورته «ضجر البواخر»، يحتفي صلاح باديس بالأمكنة المغيّبة من عاصمة الجزائر، يعيد رسم طبوغرافيا مدينة غير مكتملة. «نحن عبيد هذا المكان نوهم الزّبائن بعلاقات ودٍ ومعرفة ثابتة، نمدّهم بالضّحكات عند مجيئهم وكأننا أصدقاء، نخدمهم كأنهم أسيادٌ، تماماً كما يشتهون، وتحت أعين الكاميرات نسلبهم أموالهم وهم يضحكون» يكتب. كتلة الإسمنت الضّخمة، التي تفتح ساقيها للبحر، والتي صارت عاصمة للبلد، تتبرّج، بكل حالاتها، في هذا الكتاب، لا تقبل بأن تظلّ «فانتازم» قديم، لكتّاب مستشرقين، هي مدينة صادمة، ومتخاصمة مع نفسها، تُربي الضّجر وتوزعه بسخاء على أهلها وزوّارها. كاتب من الجزائر سعيد خطيبي :: مقالات أخرى لـ سعيد خطيبي برتقالة من نار , 2016/11/20 قسنطينة مدينة الأدباء المنتحرين ذات الوجه الشاحب, 2016/11/18 روايات فرنسية تحت البوركيني , 2016/11/13 الكاتب باعتباره سلعة , 2016/10/09 شعراء ومجهولون, 2016/10/02 أرشيف الكاتب

مشاركة :