لم أتمالك نفسي من الضحك عندما استعرضت قبل أيام طلبات إحدى الجهات الحكومية لتنفيذ خدمة معينة، الملف العلاقي، وصور الهوية الوطنية والصور الشمسية التي لن ترى الشمس بعد تسليمها للموظف، هل ما زالت هذه الطلبات صالحة في زمن الحكومة الإلكترونية؟ وما الذي يفيد الدوائر الحكومية من تجميع رزم من الأوراق والصور التي تتوافر إلكترونياً في «أبشر» وغيرها؟ وإلى أي اتجاه ستقودنا هذه العقليات في مرحلة التحول الوطني؟ قبل أن أكمل المقال أود التشديد على أن ثقافة البيروقراطية العميقة هذه لا تزال مستمرة بالرغم من وصول المملكة إلى مستوى متقدم عالمياً في تطبيق الحكومة الإلكترونية، ويتصدر شعبها مستخدمي الإنترنت من حيث العدد والتفاعل والوقت الذي ينفقونه فيها، فلماذا لا نستغني عن هذا الأسلوب المكلف في الوقت والجهد والمال كما استغنت عنه دولٌ أقل ترتيباً منّا في تطبيق الحكومة الإلكترونياً؟. هذه الثقافة للأسف لا تختص بها الدوائر الحكومية التي تعاني ترهلا في الإجراءات ومخاوف من اختصار الخطوات إلكترونياً إلخ، بل وموجودة حتى في أكثر القطاعات الخاصة تقدماً من حيث الكوادر والمداخيل والانتشار، وأقصد بها البنوك التي لا تزال تُهدر أموالاً طائلة في تصوير بطاقات الهوية الوطنية موقعة من العملاء على بياض في مخالفة لأنظمة المملكة، وتطلب من العميل صوراً لبطاقات الائتمان المفقودة إلخ. مثال آخر لم يمض عليه الكثير من الوقت، حينما أرادت شركات الاتصالات في المملكة تنفيذ سياسات حكومية تتعلق بربط أرقام الهواتف المتنقلة بالبصمة؛ ظّل الكتّاب ومنهم كاتب هذا المقال في تصعيد مطالبين بالاستفادة من البصمات التي سجلتها الدوائر الحكومية وأهمها «أبشر» حفظاً للأموال والوقت الضائع التي يتطلبه البقاء يوماً كاملاً في طابور طويل لتسجيل البصمة في فرع هذه الشركة أو تلك. إدمان الروتين من قبل بعض المسؤولين القدامى أو البيروقراطية العميقة ليست فقط مضيعة وهدرا للمال والوقت والجهود الوطنية كما يحدث اليوم؛ بسبب شروط عقيمة تتمسك بها الإدارات لإخفاء عجزها عن قيادة هذه الدوائر باحترافية وتطوير الإجراءات دون المساس بجودة الخدمات وأمنها «اختصارها كميّاً وتحسينها كيفياً»، هذه العقليات– إن لم تتغير- لن تُنتج تحولاً حقيقياً يتناسب مع رؤية المملكة لمكانتها وتقدمها في عام 2030م. أليس من الواضح مثلاً أن طريقة وأسس ترخيص الأعمال التجارية ومزاولتها لا تزال أقل من أن تفرز قطاعاً خاصاً متميزاً لا يعيش كما كان في السابق طفيلياً أو عالةً على الإنفاق الحكومي؟ هل نحتاج إذن إلى الاهتمام بتصريح البلديات لمساحات من الإسمنت تؤجر بمبالغ طائلة للبدء في مشروعات تجارية؟ ما الفائدة من أن يدفع المستثمر عشرات الأوراق للبلديات ووزارة التجارة والغرف التجارية والدفاع المدني وعقود الإيجار وغيرها من التصاريح الأخرى ثم يستلم عشرات الأوراق من التصاريح؟، ما الذي يضمن أن هذا «المراجع» الذي أدمن روتين الدوائر الحكومية سيتحول إلى مستثمر مبدع يُسهم في تحقيق رؤية المملكة بدلاً من ملاحقة الإنفاق الحكومي وامتصاص أموال الأجانب والدفع بسعودة وهمية؟ ألسنا بحاجة إلى تصريح لممارسة المهن بشتى أنواعها، وهيئات لفرز المؤهلين لممارسة المهن أكثر من احتياجنا إلى تصريح بلدية لمحل حلاقة يتحول إلى صالون تركي أو هندي بكفالة سعودية وهمية؟ أليس الأجدى من الاهتمام بنسب سعودة هذه المحلات التي أفرزت وظائف ذهبت بنسبة 97% لغير السعوديين- كما أشارت آخر الإحصائيات الحكومية- أن يتم مراجعة خطط المشروع وما إذا كان مصمَّمَاً لاستِحلاب المشاريع الحكومية بحالبات أجنبية؟ أو لتمكين السعوديين مستثمراً وموظفاً؟، وبمعنى آخر التحول من تصريح المكان إلى فرز العقول التي ستديره. التحولات التي غيّرت مسار الدول تطلّبت رؤىً شجاعةً وتضحيات كثيرة يدفعها الجميع- دون استثناء-، لكنها تطلبت أيضاً عقولاً جديدةً تفهم الواقع والثقافة المحلية وعيونها على المستقبل بعيداً عن الإغراق في البيروقراطية التقليدية التي لا تزال تعتقد بأن تكديس الملفات الخضراء والأوراق على مكاتب الموظفين يغطي عوراتها الإدارية.
مشاركة :