لعبت الدراما التليفزيونية التاريخية والدينية دورا ملتبسا إلى حد بعيد في فترة صعود تيارات الإسلام السياسي والتي تجلت من السبعينيات وحتى الآن، حيث كان الماضي بفتوحاته وانتصاراته وبطولاته شرقا وغربا وشخصياته وقيمه وطموحاته محورا أساسيا في أغلب الأعمال، وذلك في مقابل حاضر ممزق ومتشرذم تعلو وجهه الحروب والنزاعات والفتن والهزائم والانكسارات، وهو الأمر الذي ترك آثاره على المشاهد العربي وأبرز هذه الآثار خلق وهم عودة زمن المجد الإسلامي والدولة الإسلامية أو بالأحرى الخلافة الإسلامية وتمني عودة خلفائها وأئمتها وإزاحة الحدود والحواجز بين الدول. وقد كانت هذه الأعمال تنتج على نطاق واسع في العديد من الدور وتوزع على تليفزيوناتها المحلية ثم قنواتها الفضائية، لتدخل الأخيرة على خط الانتاج، لتحتل هذه الأعمال مساحة واسعة من شهر رمضان الشهر الأكثر منافسة على جذب المشاهد، والمدهش أنه ظهرت هذه الأعمال في مجمل الدول العربية فأنتجت العراق وسوريا ومصر والكويت وفلسطين وهلم جرا مسلسلات تتناول شخصيات دينية وفترات تاريخية، فأنتج "الإمام الغزالي"، و"ابن تيمية" و"عصر الأئمة"، و"ليلة سقوط غرناطة" و"صدق وعده"، و"ذي قار"، و"المرابطون والأندلس"، و"صقر قريش" و"ملوك الطوائف" و"إمام الفقهاء" وغيرها العشرات من الأعمال التي وضعت المشاهد في حالة مقارنة بين زمنها وزمنه الحالي. لكن هذه الأعمال اختفت أخيرا، فعلل البعض اختفاءها بموقف فكري مما تحمله من أفكار تمجد الجهاد وأزمنة الخلافة الإسلامية والسلاطين والغزوات والفتوحات والشخصيات الدينية وغيرها، ورأى البعض أن وراء الاختفاء تراجع التمويل حيث إن صناعة أعمال كهذه يتطلب تكاليف كبيرة. حول هذه القضية كان هذا التحقيق. المخرج محمد كامل القليوبي كان رده مقتضبا للغاية لكن دلالاته واضحة، قال " أشاهد هذه الأشياء إطلاقا و أحتمل مشاهدتها ولذا رأي لي فيها". أما الناقد السينمائي بشار إبراهيم فقال "لم يعد أحد يريد أبطالاً، ولا سماع قصص البطولة. التقى الطرفان المهزومان في منتصف الطريق: المواطن يريد حدّ كفاف يومه، بعد خيبته من الثورات، ومن الربيع العربي، ومن الساحات التي احتشد فيها، وظنّ أنها منقذته، فأعادت إليه كرة أحلامه مثقوبة، بسلطة قديمة ترتدي ثوبا جديدة، أو قوى نكوص تاريخية، تريد إعادته إلى عصور الانحطاط، وأزمان القيان والجواري، والسياف مسرور. والسلطة التي ترى أنها تهاونت ذات يوم فسمحت بتعبيرات درامية عن البطل التاريخي، ودوره في استنهاض الهمم، واستعادة المجد السليب، والكرامة المشروخة، والحق المُضيّع، فكانت أنموذجاً وأمثولة لملايين ساقتهم أقدامهم وأقدارهم إلى ساحات وميادين المطالب التي أفضت إلى ما لا ترغبه ولا ترضاه". وأضاف "لم تعد السلطة الجديدة راغبة في قول ما كان مسموحاً من قبل. أخذت من الدرس موعظة، ولم تعد تثق باستقرارها الظاهر، وأمانها المتوهم. وهكذا صارت هوامش التعبير أضيق. ما كانت هذه السلطة نفسها تسمح به قبل العام 2011، لم يعد مسموحاً، ولا مرغوباً. ليس على مستوى الكتابة، ولا القول، ولا المشاهدة. ليس على سبيل المزاح، ولا في مجرى الجد. وما كان متروكا للفن من سينما ومسرح ودراما تلفزيونية لم يعد كذلك. صار التدقيق أشدّ وأكثر انتباهاً لأي تلميح أو تصريح. لم يعد أحد يريد أبطالاً، ولا سماع قصص البطولة. ولا استلهام التاريخ القريب أو البعيد". نورا أمين وأوضح بشار إبراهيم أن شاشة التلفزيون السوري لن ترى مثل "بقعة ضوء"، التي كانت قبل 2011. ولن ترى الشاشات المصرية مثل "البرنامج" الذي كان قبل 2013. ولم تعد الهوامش اللبنانية تتسع لضحكات على مقياس "بسمات وطن". النكوص والتراجع والانحسار سمة طاغية، وهي إلى مزيد على هذا الدرب. لن يكون مسموحاً استعارة بطل تاريخي يستنهض همم قومه، ويشهر سيفه في وجه الظلم والاستبداد. ولا إعادة صياغة سيرة بطل شعبي ينشد للحرية. ولا فاصل كوميدي يهزأ بسلطاتنا، وتناقضاتها، ومهازلها، وخيباتها. السلطات التي جدّدت نفسها بنفسها على إيقاع "الربيع العربي"، وعت الدرس جيداً، وأول فصوله أن أبطال الدراما يمكن لهم أن ينسلّوا من الشاشة، ويتجمّعوا في "ميدان التحرير"، مرة أخرى. ورأت الناقد السينمائية رانيا يوسف أن المشكلة إنتاجية بالدرجة الاولى، فضلا عن أن شركات الانتاج أصبح لها توجه مختلف، وقالت "مع تراجع الإنتاج التليفزيوني اختفت تقريبا الدراما التاريخية، فقطاع الإنتاج قدم لسنوات طويلة مجموعة من الأعمال التاريخية المهمة رغم ان الانتاج كان أيامها بسيطا، حيث كان الاهتمام وقتها بالنص الجيد واختيار الممثلين أهم عناصر نجاح العمل". وتساءلت "هل نعتبر مثلاً أن الملحمة التركية "القرن العظيم" تمجد عصر الامبراطورية العثمانية أم أنها تسرد بأسلوب درامي فترة من تاريخ العالم. إننا لو حاسبنا صناع الفنون علي نواياهم في تقديم أعمالهم لن نختلف عن محاكم التفتيش، العمل الفني هو عمل فني يمكن قراءته بعدة مستويات". وأضافت "بالطبع هناك أعمال مشبوهة، وهذه تكون واضحة، لكن هناك أعمالا فنية خالصة، وأعتقد أن المتعاطفين مع الجماعات الجهادية لا ينتظرون مشاهدة مسلسل تاريخي أو ديني لينضموا الي هذه الجماعات، فأفكار هذه الجماعات لها أبعاد أكثر عمقا من مجرد مشاهدة مسلسل والتأثر به. فمثلا المجتمع المصري غارق منذ سنوات في مشاكله الشخصية ودعني أقول لك إن الأفكار السلفية تغلغلت في دماء المصريين وتبلورت في شكل عادات وتقاليد أكثر منها تفاصيل عقيدة أو مذهب، المواطن ممكن يستموت من أجل الحفاظ على تقاليده أكثر من الحفاظ علي العقيدة". الروائية والكاتبة المسرحية والممثلة نورا أمين رأت أن انتشار الدراما التاريخية كان متزامناً مع صعود الدراما الاستهلاكية بشكل قوي، تلك الدراما القائمة على استعراض الملابس والأجساد والوجوه المجمَلة، أو بالأحرى الدراما التي تنتجها أموال الإعلانات. ولاشك أن الدراما التاريخية لا يمكنها أن تبيع إعلانات ومن ثَم فقد تضاءل وجودها تدريجياً حتى تلاشت. أصبحت مرتبطة بموسم رمضان وكأنه الشهر الكريم يمنحنا هذه الفرصة كزكاة ضرورية عن باقي الدراما الاستهلاكية، ومع ذلك تظل الدراما التاريخية الرمضانية حدثاً موسمياً وربما استهلاكياً بدوره لكن من زاوية أخرى. الآن تستند صناعة الأموال وتدويرها في الدراما على النسيان وليس على التذكر، سواء كان تذكراً لتاريخ زاهٍ أو دامٍ. ورأى الكاتب والناقد أحمد عبدالرازق أبو العلا أن المسلسلات التاريخية - خاصة الدينية منها - كانت تلعب دورا كبيرا في التوعية، بالذات تلك التي تقدم نموذجا لشخصية المسلم المعتدل، والذي ينتهج النهج الصحيح للإسلام بعيدا عن التعصب، وتلك النوعية من الدراما التلفزيونية، كادت تختفي تماما، بدليل أن العام الماضي وخلال شهر رمضان، لم يُنتج سوي عمل واحد من خلال شركة صوت القاهرة بالمشاركة مع منتج خاص، وهو مسلسل "قضاة عظماء". أحمد عبدالرزاق أبوالعلا وقال "هناك مجموعة من الأسباب التي ساعدت علي تراجع إنتاج تلك النوعية، أهمها: عدم حماس جهات الانتاج الخاصة، بسبب التكلفة العالية للإنتاج، وعدم وجود النجوم القادرين علي تقديم تلك النوعية، لأن معظمهم صار يفضل أداء الشخصيات المعاصرة، بالإضافة إلي عدم وجود كُتاب، علي كفاءة وثقافة، تسمح لهم بتقديم تلك النوعية، التي تتطلب جهدا، وعلما وبحثا. وهناك سبب أخير يتمثل في الضغوط التي تمارسها بعض المرجعيات الدينية لوقف انتاج تلك المسلسلات، الأمر الذي دفع معظم القنوات الفضائية، لعدم التحمس لشراء أو إنتاج المسلسل التاريخي. ولفت أبو العلا إلى أن المسلسلات التاريخية، سلاح ذو حدين، أخطرهما الحد المنحاز لكل ماهو سلفي، وبالطبع حين نقدمه فإنه يُكرس لتلك الثقافة التي ليست في صالح المجتمع، وفي الوقت نفسه، حين يتم إنتاج بعض المسلسلات، ذات الفكر التنويري، فإن التيارات المتشددة تقاومها، وتمارس ضغوطا كما ذكرت لك، لوقف إنتاجها، ولأن الأمر صار علي هذا النحو من الجدل ـ والاختلاف، والتخبط، فقد أعطي الفرصة وأتاحها أمام من يريدون توقف انتاجها، فتوقف بالفعل، والحل اذا أرت عودتها إلى الساحة، يكمن في ضرورة قيام جهات الإنتاج الرسمية "قطاع الإنتاج المصري – شركة صوت القاهرة – مدينة الانتاج الاعلامي" بإنتاجها، بوصفها رافدا تنويريا لا ينبغي حجبه أو ومنعه. وأكد المخرج محمد الدسوقي أن هناك عرقلة أساسية في الانتاج لأن هذه النوعية من الدراما تحتاج إلى إنتاج ضخم لا يقدر عليه أشخاص أو شركات ترغب في المكسب، وأن هذا الزمن من وجود دراما أو أفلام تعرض بسرعة وتختفي أيضا بأسرع مما نتصور، ولكنها تجلب مكسبا فوريا. إلا أن هناك شركات تابعة لدول عربية قد قامت بانتاج بعض المسلسلات الدرامية وكذا قطاع الإنتاج بمصر تصدى إلى هذا منذ عامين. ونتمني التوفيق وأن تقوم الدولة بإنتاج هذه النوعية من الدراما. محمد الحمامصي
مشاركة :