علاء الدين محمود مع الفيلسوف وعالم الاجتماع زيجمونت باومان، المولود عام 1925، نلامس مواضيع في غاية الأهمية، وهي المواضيع التي تناولها بشكل مختلف وعلى نحو نقدي، يقدم من خلاها تفسيراً لكثير من المصطلحات والمفاهيم، وبشكل مختلف ينظر إلى الحداثة الأوروبية كلحظة تم فيها تقديم تنازل كبير من قبل المجتمعات الأوروبية عن الحرية من أجل زيادة الحماية الفردية، وكأنه ينظر إليها كتحصينات في الأيديولوجيا الرأسمالية، فالحداثة بالنسبة إليه شكل صلب، أو ربما مصطنع إنما بطريقة غير طبيعية، يختبئ وراءه فاعل أراد أن يلعب على المخاوف والهواجس، بالتالي نشأ هذا الشكل التنظيمي المعزز للسلطة والمتحكم في الثروات، بالتالي قام بوضع القوانين وتطبيقها، وكذلك النظم والتنظيمات من أجل رسوخ النظام وتعزيز السلطة عبر ادعاءات نفيها، وادعاءات الحرية الفردية، بينما هو يسعى إلى تجنب الفوضى، بالتالي يشرعن لما يسهل حياة البشر ويرتبها وينظمها. ربما أتاح ثراء تجارب باومان له ذلك الفضاء التأملي في النظر للأشياء فهو قد خدم طويلاً في الجيش، كما أنه قد اعتنق الأفكار الشيوعية في مرحلة مهمة من مراحل حياته، وهذا كان له تأثير كبير في حياته الفكرية، وله انعكاساته عليه كعالم اجتماع، ففي وقت متأخر من حياته كان قد أثار الكثير من القضايا الفكرية المتعلقة بالنظام الأوروبي، أو بالأحرى ببنية النظام الرأسمالي وإن لم يسمها كذلك، فهو قد أنتج مؤلفات فكرية تناولت العلاقة بين الحداثة، البيروقراطية، العقلانية والإقصاء الاجتماعي، كما قام بتأليف عدد من الكتب التي تناولت وضع القوانين والأنظمة وترتيب الحياة، والتي يحكم عليها بأنها المحاولات التي جاءت دون طموح البشرية، فهو يرى أن الحياة عندما تكون منظمة بشكل منطقي وواضح، سيكون هناك دائماً فئات من المجتمع لا نستطيع أن نضبطها ورغم ذلك تعتبر جزءاً من المجتمع. وهذا نمط من الكتابة النقدية نحو المجتمع الأوروبي يستهدف نظام الوعي الذي قامت عليه المجتمعات الحديثة في أوروبا والمرجعيات الفكرية التي شكلت هذا المجتمع، وقد استلهم بومان عدداً من أفكار فلاسفة أوروبيين معاصرين تأثر بهم وبفلسفتهم مثل الفرنسي جاك دريدا، وربما يبدو ذلك جلياً في مؤلفه الحداثة والازدواجية، والذي تناول فيه الغريب، كنمط غير مألوف في مجتمع غير مقرّر، وهو ينظر إلى المفارقات وتصور المجتمعات الحديثة تجاه الغريب وغير المألوف ليخلص إلى أنه وفي ظل اقتصاد موجّه للاستهلاك، يبقى الغريب مرغوباً ويمتلك جاذبيته كما في الأطعمة وماركات السيارات والموضة، ويرى أن الجانب السلبي في قضية الغريب هذه يكمن في العجز عن التحكم والسيطرة على الغريب، وكذلك الشخص الغريب القادم من خارج نطاق مجتمعه، مما ينظر إليه بحسب التصورات كمهدد مقيم. ويطور بومان تلك الأطروحة بالحديث عن اليهود والهولوكست، معتبراً أن المزاعم اليهودية قد أنتجتها المخاوف من الغربة، من وجودهم كغرباء في المجتمعات الغربية، وبالتالي فهو يرى أن هذه المحرقة ذات علاقة بالحداثة، وهذه الفكرة قد طورها في منجزه الحداثة والهولوكست، والذي رأى فيه أن حديث المحرقة ناتج عن الشعور بكثير من المخاوف من خلال وضعية اليهود كغرباء، وهو في هذه الفكرة يستلهم كتابات كثير من المفكرين أمثال ثيدور أدورنو، وحنة أرندت في بحوثهم الفكرية في مجال الاستبداد والتنوير. وعلى ذات النسق الوصفي والنقدي أفرد باومان دراسات على تحولات المجتمع الأوروبي في فترة ما بعد الحداثة، وهي الحقبة التي حدث فيها انقلاب في المجتمع الأوروبي، فقد صار مستهلكاً بالكامل، متنازلاً عن الحماية مقابل الإقبال على الحياة والانغماس فيها، والتمتع بحرية الاستهلاك، لقد حدث سيلان كبير في تلك الصلابة فكانت الحداثة السائلة، من أجل الاستمتاع بأقصى درجات الحرية، حرية الاستهلاك، حرية الاستمتاع بالحياة عبر الاستهلاك، في عصر صارت فيه كل الاتفاقيات مؤقتة وعابرة، كما في توصيفه للحداثة السائلة.
مشاركة :