التشكيك والتفكيك عند المفكر زيجمونت باومان

  • 8/4/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

لعل خطورة ما يحاول المفكر زيجمونت باومان تأكيده في سلسلة كتبه عن السيولة والميعان هي رغبته في جعل مادية العالم متقولبة في إطار فيزياوي سائل، مستلهما عبرها أفكار جاك دريدا التفكيكية، ولا سيما تلك التي يشير فيها إلى فيزياوية المادة نافيا بنيوية التموضع ضمن شكلية متجانسة، مؤكدا سمة اللا ستقرار والتواتر والتنافر والبلبلة والحركة المنفرطة بالمحو والمنفتحة بالخط. ودريدا هو الذي وصف مشروعه التقويضي ـ في حوار أجرته معه مجلة الكرمل الفلسطينية عام 1985 ـ بالقول: «إنه فكر إحالي لا يريد أن يغلق حركته بأية شبكة من العلاقات أو سلسلة تكرر كل واحدة من حلقاتها الحلقات الاخرى وتدخلها في سلاسل اخرى تخترق الجسم الميتافيزيائي كله وتعمل على تفكيكه من طرف إلى آخر.. مقدما هو كلمات مفيدة تتمتع في ذاتها بثنائية فعالة غير قابلة للتذويب كلمات كالأثر الذي يشير إلى المحو والإشارة في الوقت نفسه». وهذا التشكيك الذي يفكك البنية ويعيدها بشكل جديد وبلا نهائية هو الحيز المادي الذي قبض عليه باومان، ليتخذ منه نظرية قائمة بذاتها في السيولة، لكنها نظرية تمتاز بتابعيتها لفلسفة التفكيك ليس بالمعنى المؤسلب للاتباعية الذي يقتل المتبوع ويخنقه، وإنما بمعناها التطويري التراكمي كونها تضيف للتفكيك أبعادا تمنحها حياة أكثر. هذا هو ما تقصد باومان عمله في نظريه للحداثة وما بعدها، نازعا منزعا فيزياويا ومتحليا بمضامين مائعة وتخمينية كي يثبت أن السيولة سمة مرحلتنا الراهنة. وهذا ما يجعل نظريته متغيرة في حيازاتها للمضامين، غير ثابتة في تكتلاتها ومسوحاتها، وهي أيضا لا تعرف موضعا ثابتا تقبع فيه، لهذا يصبح التاريخ بالنسبة إليها فعلا يخضع لعملية الإذابة التي لن تتطلب سوى تفكيك البنائين التحتي والفوقي فتتحطم القوالب وتتصدع الثوابت، ليعاد تصنيعها وتركيبها وتوزيعها توزيعا مكانيا من جديد. وبهذا تكون السيولة والخفة والاذابة والصهر والتشابك والتلاحم هي أسس تفكيك التراكيب وسمات بعثرة الثنائيات لتتلاشى في تيار السيولة الجارف. بيد أن باومان تجاوز الدلالة الصناعية للتفكيك بدلالة طبيعية تتخذ مدلولات المادة فيها معان تنقتل من الصلابة إلى الميوعة وبشكل لا يستقر على حال، لتنتهي تلك المدلولات إلى حتمية هلامية لا شكل لها ولا عنوان. وبالتشكل واللا تشكل تغدو توجهات باومان متسمة بالنقض والدحض والفكفكة مستحضرة الفاعلية الطبيعية التي تقوم على ما هو حتمي وليس صناعيا. ولا ننسى أن الاساس الفكري في التصورين الطبيعي والصناعي للتفكيك واحد وهو استناده إلى مفاهيم البنية والتكرار والاختلاف والمغايرة والارجاء التي بمجموعها تهدف إلى نقض النضوج الذي تدعيه الفلسفة العقلية البراغماتية التي يؤمن بها النقاد الارسطيين. وبناء على هذا النقض لا يعود للعالم ثوابت يعترف بها ولا استقرار يمكن الوثوق به حيث لا سجن تتخندق فيه الفلسفة العقلية ولا مركزية يمكن أن تلفها. ولقد ألهمت هذه الفلسفة الناقضة والداحضة للمركزية كثيرا من النقاد والمفكرين على طرح رؤى تصب في باب التفكيك من ذلك طروحات بول دي مان عن العمى والبصيرة وجوليا كرستيفيا حول الامتصاص والتحويل وكرستوفر نوريس عن الهشاشة والاختزال التي تتقارب مع التثوير للمركز والهامش التي استبدلها باومان بإطروحة الميوعة والسيلان، وما يستتبع ذلك من مفارقات منهجية وإجراءات مقصدية. ويبدو أن خطورة ما يحاول باومان صنعه في سلسلة كتبه عن الحداثة السائلة التي تجعل مادية العالم متقولبة في إطار فيزياوي سائل هي ذات الخطورة التي نبه إليها دريدا حين سئل في إحدى المرات عن كون مؤلفاته توصف بأنها أعمال خطيرة، إذ قال (أن بعض الناس لا بد أن يشعروا بالخطر لا من أعمالي وحدها، بل من كل هذه الاشياء.. إن المسألة هي انتقالات موضعية ينتقل السؤال فيها من طبقة معرفية إلى أخرى ومن معلم إلى معلم حتى يتصدع الكل وهذه العملية هي ما دعوته بالتفكيك). وانطلاقا من النزعة التفكيكية في جعل الزمانية الحداثية سائلة فإن باومان ينتقد فكرة المجتمع فالبيت ليس له وجود حقيقي كمكان مشترك لمجموعة افراد تربطهم قربى، وأن التحرر من المكان إنتاج بينما الانغلاق في المكان استهلاك، وأن التحديث لا يتوقف ولا يكتمل أبدا وسيفضي التعطش الشديد المتأصل اللانهائي إلى التدمير الخلاق، وأن (كل ما هو من صنع الانسان يمكن أن يدمره الانسان.. واننا نتحرك ولا مناص لنا من الحركة الدائبة) كتابه: الحداثة السائلة، ص74. وما دامت الحداثة لا نهائية ولا ضوابط تحكم الانسان الذي سيكون هو رقيب ذاته فعندها لا حاجة لقادة عظام يقولون لنا ماذا نفعل فيريحوننا من المسؤولية المتعلقة بتبعات افعالنا. وهذا التصور الذي يقدمه باومان يعارض ما يذهب اليه منظرو الاخلاقية مثل دوركايم وديدرو ودولوز وماركوز، فباومان يفضل عيشة البداوة على عيشة التحضر التي يجدها مثقلة بأعباء مملة بالإرادة وتصريف الأمور، اما الأبوة والأمومة فانهما في طريقهما إلى التفكك والانهيار. كما سيجري اقصاء الأجداد والجدات فلا تعود لهم القدرة على المشاركة في قررات ابنائهم وبناتهم وسيرى الاحفاد ان معنى الجد والجدة يتحدد بخيارات وقررات فردية. ويوافق باومان ما طرحه المفكر اولريش بيك حول (الزومبية) بوصفها فئات وكيانات ميتة فارقت الحياة ومن ثم لا كيان يمكن أن نسميه اسرة أو طبقة أو جيرة أو ما شابه من الامثلة التي فيها الحياة الراهنة مثل الكائن الزومبي ميتة حية في الآن نفسه. ومع سرعة الزمن الإلكتروني وعصر السيرنيطيقيا أو علم الضبط والاتصال ومرحلة ما بعد البانوبتيكون لن تعود هناك حاجة لحروب برية وغزو الاراضي بالصواريخ والطائرات، وستنتفي فكرة الكلية بازاء مفاهيم التحرر والفردية والمكان والزمان والعمل والجماعة، يقول باومان: «أن تشعر انك متحرر من القيود لأنك حر ان تفعل ما تشاء يعني الوصول إلى توازن بين الرغبة والخيال والقدرة على الفعل» (من كتابه الحداثة السائلة، ص60) ويأتي بأمثلة تطبيقية من روايات جورج اوريل والدوس هكسلي. وبناء على هذا النوع من الحفر التفكيكي الذي يتطلب استغوارا بمعاول يبتدعها النقاد بأنفسهم ليكشفوا بواطن كامنة لم يكن لها أن تبزغ ظاهرة للعيان لوحدها، فإننا نطمح أن يكون في نقدنا العربي من يبتدع معاوله النقدية الخاصة ليطور الفلسفات المطروحة على طاولة النظر والجدال وكانت الناقدة يمنى العيد قد تساءلت في كتابها (فن الرواية العربية بين خصوصية الحكاية وتميز الخطاب، ص29): كيف يمكننا أن نستفيد فعليا من التفكيكية أن نرمي بأنفسنا خلف معنى هامشيتنا.. بكلام آخر كيف يمكننا أن نستعين بالتفكيكية.. من معنى آخر لها هو معنى الهامش المركز لا المركز الهامش). وليس خافيا أن في التساؤل تكمن نصف الإجابة كما يقال فقد يفضي التساؤل إلى تطلع موجب كأن يتم تبني مشروع فكري معين يدفع بالقضايا الساخنة إلى منطقة الحل والانفراج أو يفضي إلى طرح رؤية فكرية غير تقليدية تثوّر المعتاد وتبصر بسلبياته وهو ما يسميه باومان اللا يقين بكل ما فيه من فجوات مبهمة ودهاليز معتمة.

مشاركة :