بداية الأسبوع الثاني من الشهر الجاري، وبالتحديد مساء الإثنين 9 يناير (كانون الثاني) رحل المفكر والفيلسوف والمنظر البولندي زيجمونت باومان بعد تسعة عقود وسنة (91 عاما). ترك لنا الراحل إرثا معرفيا ثقيلا، ضمنه بعضا من الدروس والخلاصات، ومن التجارب والتأملات، وأحيانا من الآلام والآمال، نجّمَه في ما يقارب 60 كتابا.عالم اجتماع من أصول بولندية، يحمل الجنسية البريطانية. يعتنق الديانة اليهودية، ويلتزم الماركسية كآيديولوجيا. بدأ حياته البحثية بالتأصيل للاشتراكية البريطانية، والدفاع عن الطبقات الاجتماعية ومساندة احتجاجات العمال، قبل أن يلمع اسمه بدءاً من تسعينات القرن الماضي، عندما تخصص في تفكيك العلاقة بين الحداثة والشمولية والعولمة.كانت أطروحة نهاية "الهياكل المستقرة" في المجتمعات المعاصرة سببا في لفت الأنظار إليه، وبالأخص حين نعلم أنه استند في التأسيس لها على "محاورات" نقدية، تطرق فيها لأعمال ماركس وغرامشي وأنتوني جيدنز وروبرت كاستل وبير بورديو... وغيرهم، ما قاده إلى توليد أو بالأحرى نحت مفهومه عن "السيولة"، الذي استعاره من حقل الفيزياء، فمن المعلوم أن المواد السائلة تتميز عن المواد الصلبة بعدم قدرتها على الاحتفاظ بقوة التماسك بين مكوناتها في حالة السكون، وفي أنها لا يمكن أن تحتفظ بشكلها بسهولة.أطلق الراحل عام 1998 مفهوم "المجتمع السائل"، وهو مفهوم مجازي صار متداولا كثيرا في دراسات ما بعد الحداثة، أردفه بجملة من العناوين المهمة والمثيرة والمعبرة في الوقت ذاته؛ ترجمت إلى عشرات اللغات، من ضمنها: «الأخلاق في عصر الحداثة السائلة»، «الحياة السائلة»، «الحبّ السائل»، «الخوف السائل»، «الرقابة السائلة»، «ثراء الأقلية»، «الحرية»،... تتقاطع أعماله في الموضوعات التي يتناولها، فنجد في زمرتها على سبيل المثال: العولمة، الحداثة وما بعد الحداثة، المادية الاستهلاكية، النظام الأخلاقى والحرية.. إلخ. كان النقد حاضرا بقوة في كتابات باومان، فقد انتقد وبشدة شمولية الحداثة ونواتجها البشرية التي قايضت مطلب الأمن بمطلب الحرية. لدرجة وصفه البعض بالناقد الأكثر شراسة للحداثة ومجتمع الاستهلاك، بشكل خاص بعدما أبدى في السنوات الأخيرة من عمره الطويل خيبة أمله عن المآلات التي صرنا إليها، حينما تبين له أن ما نعيش فيه من سياسات ليبرالية جديدة، وفيض تكنولوجي عارم جعلا من وعد الليبرالية الجديدة بالثراء والوفرة للجميع مجرد وهم أو كذبة كبيرة. يرى باومان في كتابه "ثراء الأقلية" (2014) أن مفهوم "الإفقار"؛ في المجتمع غير المستقر أو السائل، يحتل مكانا مركزيا، وتعاني فيه أغلبية مضطهدة ومطرودة خارج جنة الليبرالية على حساب سعادة ورفاه الأقلية المحظوظة. يجادل في الكتاب ذاته بأن العالم يدفع الآن أثمانا باهظة نتيجة الثورة النيوليبرالية التى بدأت عام 1980، وهذه الثروة تركزت فى أيدى الأقلية ولم ينعم بها بقية المجتمع، وهو ما اختصره في كوجيتو خاص به، شعاره: "أنا أقترض أنا موجود".عودا إلى "السيولة" عماد أطروحة باومان، التي يربطها بالسرعة التي تعرفها كل مناحي الحياة، فالهوية في المجتمعات السائلة تفتقد، من وجهة نظره، لهياكل على درجة ما من الاستقرار، ولو المؤقت لا يمكنها أبدا أن تكون أمرا ناجزا أو نهائيا. بمعنى أن البديل الذي يحل محل "الهوية" بدلالتها الكلاسيكية، هو جماعات أو أسراب ذات ترابط ميكانيكي صرف، توفر شعورا واهما بالأمان. ويعطي المثال الأبرز هنا بوسائل التواصل الاجتماعي الحديثة حيث تحل الأعداد الهائلة من الأصدقاء الافتراضيين محل الصداقة الحقيقية، ومشاركة القيم والتعاون الاجتماعي. ويحذر في كتابه «الأخلاق العمياء» (2013)، الذي أصدره برفقة الكاتب ليونايدس دونسيكس، من أننا نفقد روحنا الجماعية نتيجة الغرق في عوالمنا الذاتية.امتد التفكك بحسب باومان إلى كل مناحي الحياة السائلة، ففي المجال الثقافي مثلا يرى أن الزمن الذي كان فيه الذوق الرفيع أو المألوف علامة دالة على فئة اجتماعية معينة انتهى. بمعنى أن الاستناد لهذا المعيار بغية تمييز نخبة مثقفة؛ لها ميراث ذوقي وفن رفيع يجعلها تنظر بازدراء إلى المشترك العابر السريع، انتهى إلى الأبد.لا يعني هذا أن لا وجود اليوم لنخبة مثقفة، بل على العكس يرى باومان أنها اليوم أكثر حيوية ونشاطا من أي وقت مضى، لكنها مشغولة جدا بمتابعة النجاحات الفنية والفعاليات الثقافية الشهيرة والجري وراء الميديا، بحيث لم يبق لديها الوقت لصياغة نماذج (مثالية) للاعتقاد، أو آليات جديد التفسير أو مقاربات نوعية للتغيير. باختصار "لم يعد هناك مثقفون متخصصون في مجالات تحتاج إلى بذل الجهد، بل ثمة مثقفون يلتهمون كل شيء".لقد لخص بول فاليري، في وقت مبكر، جزءا من أطروحة باومان عندما قال: "الانقطاع والتفكك والمفاجأه في السمات العادية لحياتنا، بل صارت حاجات واقعية لكثير من الناس الذين لم يعد يغذي عقولهم أي شيء سوى التغيرات المفاجئة والمثيرات المتجددة علي الدوام...لم يعد بوسعنا أن نطيق أي شيء يدوم. لم نعد نعلم كيف يمكننا أن نفيد من الملل".صفوة القول إن الحداثة غيرت مقومات العيش الإنساني، وأعادت تعريف الزمان والمكان لتمنحهما معاني أكثر اقترانا بالرأسمالية في مراحلها المتتالية، وبالتالي أعادت طرح أسئلة كبرى حول الإنسانية من قبيل: ماذا نعني بالإنسانية؟ وما خصائصها؟... وتتوالى لائحة الاستفهامات الحارقة التي ترك لنا الراحل مهمة البحث عن أجوبة لها. Image: category: ثقافة وفنون Author: محمد طيفوري من الرباط publication date: الخميس, يناير 26, 2017 - 03:00
مشاركة :