ليس المستبد من تتدرج سياساته من تدبير المكائد إلى تنفيذ المذابح، ولو عن طريق إقامة محاكم صورية للتخلص من معارضيه، ولكن أسوأ نماذج المستبدين من تنتهي سياساته بالفتنة. العربسعد القرش [نُشرفي2016/11/29، العدد: 10470، ص(9)] الحق المشار إليه في العنوان أعني به الاحتكام إلى القانون، الأداة البشرية لتحقيق العدل، في مواجهة القوة التي ترتبط بالاستبداد إذا مورست في غياب القانون. وليس المستبد من تتدرج سياساته من تدبير المكائد إلى تنفيذ المذابح، ولو عن طريق إقامة محاكم صورية للتخلص من معارضيه، ولكن أسوأ نماذج المستبدين من تنتهي سياساته بالفتنة، لضعف شخصيته، أيا كانت درجة ورعه ونزاهته وزهده. ولم تتعرض الأمة الإسلامية لفتنة مزمنة أخطر مما وقع في عهد عثمان بن عفان الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا، والتبس عليه الديني المطلق بالسياسي النسبي، ولم يأبه لوفد من كبار الصحابة “أشاروا” عليه بالتخلي عن منصبه درءا للفتنة، فقال “والله لا أنزعن قميصا ألبسنيه الله”. وصار مصير عثمان وقميصه إشارة دالة لم تصل إلى من مروا بالتجربة نفسها مع اختلاف التفاصيل. ويجادل الذين لا يثقون بأن “هذا الدين متين” قائلين إنه سبق الديمقراطية الحديثة بالدعوة إلى “الشورى”، وهو قولٌ حق يعفي قائله عناء دراسة الأمر في ظرفه التاريخي، ليتأكد له أن “الشورى” بالمفهوم الحرفي القديم لا تصلح اليوم؛ فهي لدى الكثيرين أقرب إلى استطلاع الآراء. على سبيل المثال، يرى الشافعي أن الأمر في آية “وشاورهم في الأمر” إنما هو “لتطييب الخاطر”. استشارة غير ملزمة للحاكم الذي يطلقون عليه لقبي “الإمام” أو “الراعي”، ويدل المعنى على أنه إمام للمسلمين، وليس حاكما يختار لفترة محددة، لإدارة دولة تتعدد ديانات مواطنيها، أما “الرعية” وفقا للمصطلح القديم فلا تستحق أكثر من شرف استشارة البعض منها، ثم يحق للراعي أن يفعل ما يشاء. بالمفهوم البسيط الصوري القديم للشورى كان محمد علي، رغم الاستبداد ومذبحة القلعة وغيرها، على خطى الخلفاء الراشدين؛ لأنه أنشأ عام 1829 مجلسا للمشورة، واقتصر دوره على تقديم مشورة تُقترح أو تطلب إلى أعضائه من كبار التجار والعمد والمشايخ والعلماء والإقطاعيين من أهل الحظوة، ولم يكن “الراعي” ملزما بتنفيذ ما يشير به أعضاء المجلس، كما لم يكن حفيده الخديوي إسماعيل ملزما بما يبديه مجلس شورى النواب الذي أسسه عام 1966. وبعد نحو عشر سنوات نضج المجلس، وانتزع صلاحيات صادفت هوى في نفس إسماعيل، إذ رفض التدخل الأجنبي في شؤون مصر مع تصاعد أزمة الديون الخارجية، وطالب بمناقشة ميزانية الحكومة، وتزامن ذلك مع بدايات تمصير النخبة المصرية، عبر نمو الوعي الوطني، والسماح لمصريين بالترقي في الجيش، وانتشار الطباعة وبروز دور الصحافة، قبيل الثورة العرابية وما تلاها. يروي عباس العقاد كيف احتفى الخديوي إسماعيل بالسلطان عبدالعزيز في زيارته لمصر عام 1863، إذ أخذ عنان الخيل التي تجر مركبة السلطان، قبل أن يدعوه السلطان إلى الصعود. وفي القلعة كان من حضور التشريفة الشيخ حسن العدوي الذي ذكّر السلطان بالأمانة “التي في عنقه لرعاياه”، وكظم إسماعيل غيظا وقلقا وظل “معلق الأنفاس”، يخشى غضب السلطان من النصيحة، واعتذر قائلا “إنه عالم فاضل، لولا أنه مجذوب فاغفر له هذه الزلة يا مولاي”. فكيف لحاكم يخشى نصيحة عالم أن يحتمل مساءلة البرلمان؟ وكان الشيخ العدوي ممن حوكموا بعد فشل الثورة العرابية، بسبب فتواه بخلع الخديوي توفيق. بتهميش الشعب، وإقصائه عن المشاركة في تجربة للنهضة، والاستمتاع بثمارها، يسلب حقه ويستلب. هكذا لم يجد محمد علي رأيا عاما مصريا يدافع عنه، حين أجهضت القوى الكبرى مشروعه الشخصي الطموح، بمعاهدة لندن عام 1840. كما لم تحتشد الجماهير اعتراضا على عزل حفيده إسماعيل ونفيه وتنصيب ابنه توفيق عام 1879. واكتفى الشعب بنداء “الله حيْ، عباس جايْ” بعد عزل الاحتلال البريطاني للخديوي عباس حلمي الثاني عام 1914، وتحايل سيد درويش على حظر الرقابة لاسم الخديوي المعزول في منفاه بأغنية “عواطفك أشهر من نار”، وتشكل الحروف الأولى في شطراتها اسم “عباس حلمي”. وفي مصائر محمد علي وإسماعيل وعباس إشارة واضحة لم تصل إلى من مروا بالتجربة نفسها فلم يعتصموا بحبل الشعب لكي يكون لهم ظهيرا في الضراء، وإن التقط جمال عبدالناصر تلك الشفرة في هزيمة 1967، وأتخيله قبل قرار التنحي قد توقع المحاكمة، إلا أن الشعب فاجأه يومي 9 و10 يونيو بإعادة الثقة به، فسارع إلى إصلاحات في الجيش ومؤسسات الدولة، متأثرا برسالة الجماهير، التي نزلت الشوارع والميادين في العالم العربي، إلى هادمي الحلم العربي، إنها لا تزال تصدق الزعيم المهزوم. لا مكان للثقة في ظل الاستهانة بالدستور، وفي الدستور المصري مواد معطلة، سأكتفي منها باثنتين. المادة الـ67 تقول إن “حرية الإبداع الفني والأدبي مكفولة… ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بسبب علانية المنتج الفني أو الأدبي أو الفكري”. ولكن ثلاثة واجهوا أحكاما بالسجن بسبب آرائهم، وقد نال أحدهم (إسلام بحيري) عفوا رئاسيا فرح به البعض، وهو مجرد عفو لا يعني التبرئة القضائية، وكان عليهم أن يطالبوا باعتذار رسمي عن أحكام تسيء إلى حرية الإبداع والبحث العلمي والدستور. وتزامن العفو الامتناني مع حكم قضائي في 19 نوفمبر 2016 بحبس نقيب الصحافيين يحيى قلاش وعضوين في مجلس النقابة لمدة عامين لكل منهم، وكفالة عشرة آلاف جنيه لكل منهم أيضا، لإدانتهم بإيواء صحافيين كانا مطلوبين للعدالة، في قضية رأي تتعلق بتمسكهم السلمي بمصرية جزيرتي تيران وصنافير المصريتين. حكم غير مسبوق على نقيب الصحافيين رغم حكم محكمة القضاء الإداري ببطلان اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، والتي كانت تتضمن نقل تبعية الجزيرتين المصريتين إلى الجانب الشرقي للبحر الأحمر. أما المادة الـ145 فتلزم رئيس الجمهورية بتقديم “إقرار ذمة مالية عند توليه المنصب، وعند تركه، وفي نهاية كل عام، وينشر الإقرار في الجريدة الرسمية”، ومازال حق الشعب في المعرفة غائبا أمام قوة تمنع هذا الإجراء الدستوري غير المسيء إلى الذات الرئاسية. روائي مصري سعد القرش :: مقالات أخرى لـ سعد القرش ثنائية الحق والقوة.. إشارات للمغفلين, 2016/11/29 ثنائية الأصل والصورة.. هكذا يظل العود أعوج, 2016/11/22 ثنائية الإرهاب والعلمانية.. أيهما الأخطر على الدين, 2016/11/15 روائي بحريني يوثق في جراندول تاريخا مسكوتا عنه, 2016/11/13 ثنائية الفوضى والطغيان.. التديين والاستبداد, 2016/11/08 أرشيف الكاتب
مشاركة :