اليونسكو وأسطورة القوة الناعمة لمصر بقلم: سعد القرش

  • 10/15/2017
  • 00:00
  • 21
  • 0
  • 0
news-picture

أي مسؤول مصري لن يجرؤ على مصارحة نفسه أو مرؤوسيه بأن مصر انكمشت، وفي الانكماش تتآكل ذاتيا وتتراجع منذ رفع شعار مصر فوق الجميع.العرب سعد القرش [نُشر في 2017/10/15، العدد: 10782، ص(6)] الرغبة في قتل الأب ربما تمتد من الأبناء إلى “الدول” أيضا، تأكيدا للتحقق وإثباتا للتفوق والندية. ويزداد هذا الشعور كلما مارس هذا “الأب” دورا خشنا في الابتزاز اللفظي والمنّ على من يظنهم أبناءه، متجاهلا حكمة مثل شعبي مصري يدعوه إلى أن يصير أخا لابنه إذا كبر. ولكن مصر المحكومة بعقدة المركزية منذ فجر التاريخ لا تريد أن تصدق أن أشقاء من أقصى الشرق العربي إلى أقصى الغرب كبروا ولم يعودوا أطرافا إلا بحكم الجغرافيا، وأنهم أسسوا مراكز كبرى سياسيا واقتصاديا وثقافيا، تاركين مصر تستمتع بأفعل التفضيل.. أقدم دولة لم تتغير حدودها ولا اسمها، وصاحبة أعلى بناء حجري في العالم حتى ثلاثينات القرن العشرين (هرم خوفو)، الدولة الوحيد التي لها عِلْم يخصّها ويحمل اسمها ويدل عليها، “علم المصريات”، إلا أن هذا كله لا تدعمه جرأة على قول “ها أنذا”، فيكون احتماء المصريين باللجوء إلى قاعدة “كان أبي” وكثيرا ما تدل على إفلاس يفضي إلى التفتيش في الدفاتر القديمة؛ بحثا عن عزاء في مجد غابر. كانت مبايعة شوقي أميرا للشعراء تحصيل حاصل، في فترة مصرية رحْبة تأوي الثائرين، وتحنو على المغضوب عليهم، وتتسع للباحثين عن فضاء لإطلاق مواهبهم، ولا تفرّق بينهم وبين المصريين، فلا يُعنى مصري بأصول أحمد شوقي وخليل مطران وأبوخليل القباني وعبدالرحمن الكواكبي ومحمود بيرم وجورجي زيدان وماري كويني ونجيب الريحاني. أما الآن فيصعب أن تتخيّل عالما غير مصري شيخا للأزهر كما كان محمد الخضر الحسين، وفي الوقت نفسه تطالب باستحقاقات الريادة بالإصرار على إدمان مقولة “القوة الناعمة” لمصر. وعلى الرغم من تجنبي الفضائيات المصرية فلا أسلم من أذى هذه المقولة التي ابتذلت، يصلني الأذى في مصادفات إجبارية عبر الراديو في وسائل المواصلات، ومن ضيوف مصريين في فضائيات عربية، وأستدعي سخرية فرانز فانون من مرضى النصوصية؛ فهواة تكرار الشعارات يحرّفونها وفقا لآفاق إدراكهم، وتتشوه النسخ التي تتناسل بحسن نية وسذاجة. وبالسذاجة نفسها أتوقع أمرا رئاسيا أو إداريا بالكف عن ابتذال مفهوم “القوة الناعمة” لعدم الجدوى، ولكي لا يندم جوزيف ناي على صوغ هذا المصطلح. ولكن أملي يخبو حين أقارن أجواء أمنية ضاغطة متوترة، لا تحتمل عرض فيلم مصري نال جوائز في مهرجانات دولية، بذكاء رجل مثل جمال عبدالناصر أنصت إلى مواطن مغربي اقتحم موكبه ليوصيه بإبلاغ السلام إلى إسماعيل ياسين، والتقط الزعيم شفرة الرسالة. جرى هذا في وقت كان لإشارة القاهرة تأثير يكفي لتغيير المزاج العام خارج الحدود، وتحريك مظاهرات، ولم يكن مفاجئا إلا للواهمين “صفر المونديال” عام 2004، حين فازت جنوب أفريقيا بتنظيم مونديال 2010 لحصولها على 14 صوتا، وتلتها المغرب بعشرة أصوات، ولم تنتبه دولة واحدة ولو عربية إلى مصر التي لم تحصد صوتا واحدا. وقد فات الإدارة المصرية آنذاك أن تدرس أسباب فضيحة تتجاوز تنظيم كأس العالم لتنعى الدور المصري. ولن تتدبر الإدارة الحالية تراجع حظوظ مشيرة خطاب المرشحة المصرية لليونسكو في الأسبوع الماضي مع بدء التصويت على إدارة المنظمة الدولية، ثم خروجها قبل المنافسة الأخيرة التي فازت فيها وزيرة الثقافة الفرنسية السابقة أودري أزولاي يوم الجمعة (13 أكتوبر2017). وليس أسهل على التلميذ الخائب من تعليق فشله على تآمر الآخرين. ولن يجرؤ مسؤول مصري على مصارحة نفسه أو مرؤوسيه بأن مصر انكمشت، وفي الانكماش تتآكل ذاتيا، وتتراجع منذ ارتفاع نبرة شوفينية ساداتية لخّصها شعارا “مصر أولا” و”مصر فوق الجميع”. وبعد أن حرصت المطارات على وجود توقيت القاهرة، أُخلي هذا المكان لمدن وعواصم عربية صاعدة. ولم تعد مصر تظهر على الشاشة، ولا تلوح إلا لمن يتحرّى عنها، وفي هذا التحرّي مواجهة مع حقيقة أكبر من قدرات حرس النظام على التسويغ. وبعيدا عن سجناء رأي بتهم خدش الحياء العام وازدراء الأديان لا توجه تهمة للمصور الصحافي المسجون محمود أبوزيد (شوكان)، منذ فض اعتصامي الإخوان في أغسطس 2013، كما فتش المسؤولون في دفاترهم القديمة وعثروا على مخالفة بناء ارتكبها الصحافي سليمان الحكيم، فسارعوا إلى هدم بيته. هذا الأداء المرتبك، وذاك السلوك الانتقائي يكفي لزعزعة الثقة في مرشحة لمنصب تمثل فيه بلادها، من غير حاجة إلى التذرع برشاوى تصويتية، ولم تكن هذه الحجة مطروحة أيام “صفر المونديال”. شيدت مصر دورها ومكانتها بأثمان مدفوعة قبل ابتذال مصطلح “القوة الناعمة”، فالغنيّ يشغله اجتهاد متواصل لتأمين مكاسبه بتجويد قدراته وتطوير أدواره، أما الفقير فيزهو بما يفتقده ويحصي ما يملك وما لا يملك تفاديا لمعايرته بالنقص. وكان دور مصر مسؤوليةً تحملتها انطلاقا من التزامها بالواجب من دون انتظار لرد جميل سيرد تلقائيا وقت الشدائد. فماذا تملك مصر اليوم من وسائل التأثير البحثي والتعليمي والثقافي والرياضي؟ لا شيء تقريبا باستثناء ثمار جهود فردية يقاتل أصحابها لإنجاز ما يؤمنون به ويواجهون عنتا في تسهيل عملهم قبل التصريح بالعمل وبعد الانتهاء منه، في ظل بيروقراطية تنشغل فيها وزارة الثقافة ووزيرها بتنظيم ندوة “القوة الناعمة وتأثيرها في دعم العلاقات الدولية”، ولا يزيد الحصاد على التقاط الصور. يتوهم مصريون أن العالم مشغول بمصر، وأنها محور الكون، فإذا سافروا لا يجدون لها ذكرا. في الهند فوجئت بجهل الشبان بموقعها الجغرافي، ويربط الجيل الأكبر مصر بالهرم وعبدالناصر. وكان صديقي المغربي عاشقا لمصر، وتصادف أن توفّي فيها، ولم أره يتحدث مع عرب إلا باللهجة المصرية مختلطة بالفصحى، ولكن أبناءه لا يعرفون شيئا عن مصر، وسألوه يوما: ماذا تقدم للعرب والعالم؟ ذكرني صاحبي بابن الشيخ حسني في نهاية فيلم “الكيت كات”، وهو يصارح أباه بحقيقة العمى الذي ينكره. رأيت المثال صادما، واكتفيت بالإشارة إلى مقالي “طيف اليونسكو.. جائع يحلم بالخبز ويلعب بخطة الجوهري” الذي نشر بصحيفة “العرب” في 17 أغسطس 2017، استباقا لنتيجة انتخابات اليونسكو المتوقعة إلا لمن ينكر أنه أعمى. كاتب مصريسعد القرش

مشاركة :