«عملية جراحية ضرورية لإنقاذ الاقتصاد المصري». تحت هذا العنوان تمّ تسويق اتفاق الحكومة المصرية مع صندوق النقد الدولي، والذي أدى إلى موجة غلاء غير مسبوقة نتيجة تخفيض قيمة الجنيه بقيمة 48 في المئة مقابل الدولار، ورفع أسعار منتجات البترول والكهرباء. ورغم كثافة التغطية الإعلامية لمبررات ودواعي هذه الإجراءات الصعبة، وسعي الحكومة للتخفيف على الفقراء من خلال سلسلة من إجراءات الحماية الاجتماعية، فإن أحاديث الغلاء تتصدر خطاب الحياة اليومية، فضلاً عن الخطاب الإعلامي، كما أن معاناة الطبقات الفقيرة والطبقة الوسطى تثير قلقاً له ما يبرره. كنت قد تناولت هنا في مقال سابق- وقبل قرار تعويم الجنيه- معاناة فقراء مصر والذين بلغت نسبتهم عام 2015 وفق تقديرات رسمية لجهاز التعبئة والإحصاء 27.8 في المئة، وامتدحت الجهود الحكومية الجادة لمحاربة الفقر وتقديم برامج للرعاية الاجتماعية للشرائح الأكثر فقراً، لكن على الحكومة أن تبذل جهوداً مضاعفة بعد قرار تعويم الجنيه واحتمال زيادة أعداد الفقراء نتيجة تساقط بعض الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى (الحراك إلى أسفل) إلى عالم الفقراء. ولا شك في أن الطبقات الفقيرة هي الأكثر تضرراً من الاتفاق مع صندوق النقد، لكن ربما لا تستطيع التعبير عن معاناتها كما قد تفعل الطبقة المتوسطة الأعلى تعليماً، والأكثر قدرة على التواصل في ما بينها، والوصول إلى الإعلام وربما التعبير السياسي. واستناداً إلى أدبيات علم الاجتماع، فإن الطبقة الوسطى مفهوم واسع وغير محدد، لأنه يضم طيفاً واسعاً من القوى والشرائح الاجتماعية، والتي يختلف موقعها من عملية الإنتاج ونصيبها في الثروة، ما يعني أن بينها تفاوتاً في الدخل والتعليم والثقافة والمكانة الاجتماعية والموقف من السلطة. من هنا يسود اتفاق بين علماء الاجتماع على تقسيم الطبقة الوسطى إلى ثلاث شرائح: عليا وهي الأقرب إلى الطبقة العليا، ووسطى، ودنيا وهي الأقرب إلى الطبقات الفقيرة، ووفق بعض الخبراء، فإن الطبقة الوسطى تضم نسبة ما بين 40 و48 في المئة من السكان، وهي تقديرات مبالغ فيها، خصوصاً أن رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات أعلن قبل تعويم الجنيه أن 15 في المئة من سكان مصر ينفقون أكثر من 50 ألفاً إلى مليوني جنيه سنوياً، ولكن بعد قرار التعويم، يحتاج من ينضم إلى تلك الشريحة أن يتقاضى ما لا يقل عن 74 ألف جنيه سنوياً. وأضاف أن 67 في المئة من أفراد المجتمع المصري ينفقون ما بين 20 و 50 ألف جنيه سنوياً، ولكن بعد قرار التعويم، يحتاج مَن ينضم إلى تلك الشريحة أن يتقاضى ما لا يقل عن 29.6 ألف جنيه سنوياً. وبذلك يتقلص عدد المنضمين إلى الطبقة الوسطى، ويرتفع عدد المنضمين إلى طبقات أدنى. وكان تقرير لبنك ‘’كريدي سويس’’ قد وضع مصر في ثامن مركز في قائمة أسوأ 15 دولة في توزيع الثروة، والتي وصفها البنك بأنها تعاني من ‘’عدم مساواة عالٍ جداً’’، وهو أسوأ تصنيف في التقرير الذي شمل 46 دولة وجاء بعنوان ‘’تقرير الثروة العالمي 2014’’. وأوضح هذا التقرير أن الـ10 في المئة الأغنى في مصر يسيطرون على أكثر من 70 في المئة من ثروة البلاد، وهذه النسبة كانت 61 في المئة عام 2000، وأخذت ترتفع حتى وصلت هذا العام إلى 73.3 في المئة. وبغضّ النظر عن صحة التقديرات السابقة، فمن المؤكد أنها تحتاج إلى مراجعة شاملة في ضوء تعويم الجنيه، كما أن أعداد المنتسبين للطبقة الوسطى والفقراء في حاجة إلى إعادة نظر. وحتى إجراء هذه المراجعات، فإنه يمكن إبداء الملاحظات التالية على الأوضاع الاجتماعية والسياسية للطبقة الوسطى المصرية. أولاً: إن الحراك الطبقي إلى أسفل هو أهم مخاوف أبناء الطبقة الوسطى التي تتحمل منذ السنوات الأخيرة في حكم الرئيس مبارك أعباء تعليم الأبناء والعلاج بعد أن تراجع دور الدولة، أو انخفض مستوى الخدمات التي تقدمها، وبالتالي ظلت لسنوات تدافع عن وجودها ومكانتها. ولا شك في أن خفض قيمة الجنيه وموجات الغلاء تضاعف من معاناتها، وتشكل تهديداً كبيراً لفاعلية ودور الطبقة الوسطى التي تعتبر وفق أدبيات علم الاجتماع أساس الاستقرار في أي مجتمع، والقوة المحركة للإنتاج والاستهلاك الثقافي والسياسي والمادي، فضلاً عن أنها القوة الاجتماعية المرشحة لإنتاج نخب قادرة على قيادة التغيير أو الإصلاح في المجتمع. القصد أن انشغال أبناء الطبقة الوسطى بتدبير احتياجات الحياة سيقلل من اهتمامها بالمشاركة السياسية كما سيقلص من طلبها على الديموقراطية والمنتجات الثقافية والفنية، ومن قدرتها على الإنتاج الثقافي والفني المستقل عن الدولة والطبقة العليا المسيطرة. ما يقود إلى هيمنة ثقافية حيث تسود معايير وقيم الطبقة العليا، ولغتها وذائقتها الفنية. لكن الهموم والضغوط المادية على الطبقة الوسطى قد تدفع بعض أبنائها من الشباب إلى التعبير الغاضب عن مشاكلهم وطموحاتهم. ثانياً: إن تحسن أوضاع الطبقة الوسطى بمكوناتها المختلفة يخلق طلباً على الديموقراطية والحكم الرشيد، وهي فرضية أساسية ثبتت صحتها في كثير من دول العالم، ويمكن الاعتماد عليها جزئياً في تفسير ثورة 25 يناير التي فجرها وقادها أبناء الطبقة الوسطى الأكثر تعليماً، والذين لديهم فرص عمل مرضية ومداخيل جيدة. تولدت تلك الثورة نتيجة السياسات النيوليبرالية في السنوات الأخيرة من حكم مبارك. لكن مخاوف شرائح واسعة من الطبقة الوسطى من التغيير و «الأخونة»، وانهيار الدولة على غرار ما حصل في سورية وليبيا والعراق، دفعتها للتخلي سريعاً عن فكرة الثورة، والالتفاف حول الجيش باعتباره الأداة المكونة للدولة المصرية الحديثة والضامنة للاستقرار، ما يؤكد فكرة انقسام الطبقة الوسطى وعدم تجانسها الثقافي والسياسي. ثالثاً: أتصور أن حالة عدم الاتفاق والصراع بين النخب المصرية هي انعكاس للانقسام الثقافي والسياسي للطبقة الوسطى، وبالتالي فإن عدم توافق الطبقة الوسطى المصرية يشكل معضلة حقيقية تحتاج إلى حل سريع عبر الحوار والتفاوض. بعبارة أخرى، فإن تجاوز المجتمع لمشكلاته يتطلب توافق أبناء الطبقة الوسطى ونخبتها. وأظن أن الظروف الاقتصادية الصعبة قد تدفع الطبقة الوسطى إلى أحد ثلاثة سيناريوات، الأول: التوافق والعمل المشترك مع الدولة للنهوض بالاقتصاد المصري. الثاني: الانكفاء على الذات دفاعاً عن الوجود الاجتماعي والمكانة الطبقية لأبناء الطبقة الوسطى، بعيداً من هموم الوطن أو معاناة الفقراء. الثالث: انخراط بعض شرائح الطبقة الوسطى في حركات اجتماعية وسياسية تدعو للإصلاح أو الاحتجاج والتمرد على الدولة. ويذكر سعد الدين إبراهيم أن الطبقة الوسطى هي من الناحية التاريخية كانت ولا تزال مصدر الانطلاق التحديثي، وصاحبة الصياغات والرؤى المستقبلية، وهي أيضاً مصدر القلق والاضطرابات والانتفاضات والثورات والتحولات الكبرى في تاريخ مصر والوطن العربي. رابعاً: نشأت الطبقة الوسطى في كنف الدولة، وكانت هي العمود الفقري لمشروع محمد علي النهضوي (1805 الى 1840) ولتجربة عبدالناصر التنموية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. وقد اتسعت الطبقة الوسطى في التجربتين واستفادت منهما، وتمتعت بدرجة كبيرة من التوافق الثقافي والسياسي بين مكوناتها المختلفة، ما مكَّنها ومكَّن مصر من إحراز مستويات مرضية من التنمية ولعب دور إقليمي مؤثر. ولا يعني ذلك أن الطبقة الوسطى خلت من الانقسامات أو الصراعات في زمن محمد علي وعبدالناصر، لكن المقصود أنه حدث توافق بين أهم مكوناتها، والأهم اصطفاف طوعي أو إجباري حول الدولة المصرية والمشروع الذي طرحه محمد علي ثم عبدالناصر. والثابت أن هذا التوافق لم يتحقق في المرحلة شبه الليبرالية (بين 1923 و1952) كما لم يتحقق في عصري السادات ومبارك، حيث حدثت تشوهات في تكوين الطبقة الوسطى، وفجوات ثقافية وتعليمية بين مكوناتها، وعموماً تراجع مستوى تعليمها وكفاءتها المهنية وقدراتها على العمل والإنجاز، وتعمَّق الانقسام الثقافي والسياسي بين أصحاب المشروعات الإسلاموية مقابل أصحاب المشروعات العلمانية (المدنية) وهو الانقسام الذي تفجَّر في الانتفاضة الثورية في 25 يناير وأطاح أحلام الثورة والإصلاح وصولاً لحكم «الإخوان» وحتى جمهورية السيسي. حيث لم تتمكن النخبة المصرية والتي تنتمي الى الشرائح المختلفة من الطبقة الوسطى من التوافق حتى اليوم على مشروع وطني جديد للتحول الديموقراطي والتنمية. خامساً: من الصعب التسليم بما ذهبت إليه بعض الكتابات حول موت أو نهاية الطبقة الوسطى المصرية، لأنه افتراض مخالف للطبيعة ويتعارض مع المنطق وتكذبه حقائق الحياة الاجتماعية، فالطبقة الوسطى بمعناها الواسع والمراوغ موجودة، وكان لها حضور بارز في الحراك الثوري في 25 يناير، و30 يونيو، لكن ربما تراجعت أعدادها أو قد تنخفض في المستقبل القريب بسبب هبوط بعض الأسر التي تنتمي إلى الشرائح الدنيا في الطبقة الوسطى إلى الطبقات الفقيرة، لكن مهما كان تراجع أعداد ودور الطبقة الوسطى، فإن ذلك لا يعني موتها أو نهاية دورها، فهي طبقة عريضة وضخمة، وينتمي إليها معظم رجالات الدولة والجيش والأجهزة الحكومية وغالبية المثقفين والمهنيين وصغار التجار والفلاحين المتوسطي الملكية. * كاتب مصري
مشاركة :