يبدو من الصعب الربط بين الموت والحب، إلا إذا رأينا التزاما قويا بأن يبقى الحب حتى الموت، عدا ذلك ليس سهلا تصوّر أن يجمع بينهما رابط باعتبارهما متضادين، لأن الحب يعني الحياة وكل ما هو إيجابي فيها، أما الموت فهو النهاية والانتهاء ويرتبط بأحوال سلبية مثل الحرب التي لا يتوقع لها أن تنتج حالة حب بين الناس، ولكن هناك استثناءات تعلن ميلاد وحضور الحب من رحم الحرب والموت والدمار فتنشأ بدايات لأناس لم يكن لها أن تحدث في ظروف سلبية مدمرة مثل الحرب بينها والموت لحظة، ومع كثافة الإحساس والشعور بالنهاية ومظاهر الدمار تتشوش تلك القصص العاطفية الجميلة التي توجدها الحروب. ذلك لا يأتي في سياق الخيال والأدب الروائي وإنما قد يكون واقعا حقيقيا، فعلى أنقاض الركام الإنساني في الحروب البشرية نشأت ارتباطات وجدانية بين مختلفين أو متصارعين حتى الموت، ولعل رائعة الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيث (الحب في زمن الكوليرا) تقدم نموذجا ملهما لإمكانية القفز على الألم والدمار حتى في أكثر لحظات الإنسانية مشقة وحزنا، لتؤكد أمرا واحدا أن الحب يبقى متى كان صادقا ونبيلا، إنه ضد النسيان حينما يرتبط طرفان في ظروف قاسية، وفي تلك الرواية يقدّم ماركيز قصة حب بين رجل وامرأة منذ سنوات المراهقة امتدت حتى الشيخوخة، وتسرّبت بين الحروب الأهلية في منطقة الكاريبي في نهاية القرن التاسع عشر، وفيها تعاهد عامل تلغراف فقير وتلميذة فاتنة على الزواج والبقاء معا مدى الحياة، غير أن فيرمينا دازا بطلة الرواية تزوجت جيفينال إيربينو وهو طبيب شاب معروف، حينئذ جاهد العاشق المهزوم فلورينتينو لكي يجعل له اسما لامعا ويكّون ثروة حتى يكون جديرا بمن أحبها، ولم يكف عن حبها طوال أكثر من خمسين عاما حتى ذلك اليوم الذي سينتصر فيه الحب. تلك وإن كانت رؤية أدبية وفنية إلا أنها تكشف عن شغف إنساني بإمكانية الاحتفاظ بالحب في أصعب الظروف وأكثرها قسوة، هذه العاطفة لا تموت أو تختنق بدخان المدافع أو يثقبها الرصاص أو تقبرها المقابر، فالحب بحسب أحد أبطال الرواية (هو أن نحب في أي وقت وفي أي مكان، وأن الحب يكون أكثر عمقا كلما كان أقرب إلى الموت)، ذلك لا يبتعد عما يدور في عالمنا العربي الذي قدّم لنا في الماضي صنوفا من قصص العشق والحب الجميل، وإن لم تكن هناك حروب ولكن انطوت على قسوة ظرفية سلبية، حملت لنا وقائعها عبر صفحات التاريخ لجمال نبلها ونقائها، والآن في الوقت الذي نعيش فيها دمارا في غير بلد عربي تعصف به أوضاع سياسية واجتماعية واقتصادية سيئة بسبب الصراع والدمار والتمايز الاجتماعي تبقى هناك مساحة للحب والأمل، وجرعة من العواطف الصادقة. أتذكر في هذا الإطار راوية واسيني الأعرج (ذاكرة الماء)، التي جسّد من خلالها الأوضاع السياسية الحرجة التي مرت بالجزائر في التسعينات والتي كان الموت يحيط بها وبرز السؤال: من يقتل من؟ جاء الأعرج بتلك الذاكرة التي يصفها بأنها (مجرد صرخة من أعماق الظلام ضد الظلام، ومن داخل البشاعة ضد البشاعة. ونشيد مكسور للنور وهو ينسحب بخطى حثيثة لندخل زمنا لا شيء فيه ينتمي إلى الزمن الذي نعيشه)، ولذلك يستحيل أن يفشل حب صادق أو ينهار في مواجهة الحرب والدمار والموت، وإني على يقين من أن هناك حبا أنيقا في زحام الركام العربي، وغبار الموت الذي يمر يوميا في أحياء ومدن بلادنا العربية التي تكتوي بنار الصراع والألم الإنساني، فيقفز الحب أقوى من الجراح والمآسي، ليؤكد أمرا مهمّا وهو أن قلوبنا مهما اعتصرها الألم تحتفظ بحقها في الأمل وتبقي الحب في مساحة واسعة، حتما تحملها رواية ما يوما أو عملا أدبيا ينتشلها من النسيان وسط الصورة المأساوية لدمار الربيع العربي، وكما عبر ماركيز حروب الكاريبي ليقدم عملا خالدا سيأتينا نظيره العربي برائعة أو روائع عن الحب والحياة تنسينا أزماتنا وصراعاتنا البلهاء. الوطن
مشاركة :