هذا حديث سياسي وثقافي وإعلامي، ولا علاقة له بالفلسفة بمعناها العميق، التي لها أصحابها. هو حديث يقتصر على مناقشة بعض الظواهر التي تؤكد أننا على وشك أن نفقد ما تبقى من رشدنا، وربما وعينا، إذا استمر التعامل مع المستجدات، بطريقة مليئة بالاستخفاف، توحي أن هناك اتجاها رسميا يدعمها ويشجعها، لأن الطرب أو الصمت، يعطي انطباعات بالرضا عن أصحابها، ويمنحهم قوة لمزيد من التمادي، والبحث عن وسائل جديدة لتغييب العقل. هناك حزمة كبيرة من التطورات تؤيد النتيجة السابقة، من يتفحصها، يكتشف مخاطر الطريق الذي نسير فيه، دون أن يبادر أصحاب الأمر والنهي والرأي، بإظهار الرفض والغضب، من الأسلوب الذي تعالج به قضايا وملفات على مستوى عال من الأهمية والخطورة. ويمكن التوقف عند ثلاثة موضوعات شغلت الناس خلال الأيام الماضية، بما يتيح الفرصة للتوضيح والتفسير. الأول، فيلم قناة الجزيرة، عن التجنيد في الجيش المصري، والذي مُنح دعاية، قبل عرضه، لم يحلم بها صناعه ومن وقفوا خلفهم، فمنذ بث الدعاية أو "البرومو" الإعلاني الخاص بالفيلم، وحتى بعد إذاعته، ونحن نرى سباقا من جانب البعض، في كيفية الهجوم على قطر، دون أن يتوقف الغالبية عند تفنيد الحجج الواهية التي ساقها الفيلم، وصنعت بطريقة بدائية، وهي كفيلة أن تفضح الأسباب السياسية التي وقفت وراء إنتاجه، وإذاعته في الوقت الراهن. لم يجتهد هؤلاء في الحديث بلغة إعلامية راقية، وبادلوا التطاول بمثله، مع أن الجيش المصري، ليس في حاجة للدفاع عنه، فقوته المادية والمعنوية، التي وضعته في مصاف جيوش العالم، كفيلة بالرد على من حاولوا النيل منه، كما أن نوايا قناة الجزيرة والداعمين لها، معروفة، ولا تستحق عناء الرد عليها. لكن الموضوع برمته، كشف عن وجه غائب، وحاجة ملحة للتوسع في الإنتاج الفني لتأكيد عراقة الجيش المصري، ودوره في الحروب المتعددة، التي خاضها داخليا وخارجيا، وفضح المؤامرات التي تحاك ضده، خاصة أن هذه المؤسسة لعبت دورا مهما في تحطيم إستراتيجيات عالمية، وأوقفت زحف سيناريوهات غامضة، كانت تعد للمنطقة، وبالتالي، رب ضارة نافعة، فقد يدفع ما حصل، إلى التجهيز لفيلم، أو عدة أفلام، تتناول باحترافية عالية، البطولات المختلفة للجيش، بدلا من الانخراط في نوبات من البكاء والصراخ والردح والشتائم، تضر العقل الجمعي، وربما تغيبه، وتعطي فرصة لمن تطاولوا، ليعيدوا التجاوزات في مجالات أخرى، بعد أن وصلت إليهم صورة خاطئة، توحي بالارتباك وعدم الثقة. الموضوع الثاني، حرائق إسرائيل، التي تعاملت معها بعض الجهات، باعتبارها انتقاما ربانيا، وحاولت تقديم الحجج والمبررات الداعمة لذلك، ردا على قيام الحكومة الإسرائيلية بمنع الآذان في المسجد الأقصى، وكأن جميع التجاوزات والانتهاكات والمجازر التي ارتكبت من قبل لم تكن كافية، ناهيك عن إقامة المستوطنات وعمليات التهجير والتصرفات السلبية بحق المواطنين الفلسطينيين. لم يناقش من رددوا هذه الحجة، الأسباب الطبيعية التي أدت إلى انتشار الحرائق، وتاريخها، وحجم الخسائر، وأدوات التعامل معها، وأساليب السيطرة عليها، واكتفوا بتقديم مجموعة من التفسيرات، التي تلغي العقل، وتحجب الرؤية الحقيقية للتعامل مع هذه النوعية من القضايا الحياتية، الأمر الذي يضاعف من حجم المأزق الذي نعيشه، ويوسع دائرة الاستسهال، التي أصبحت سائدة، وتزيد من مساحة التغييب، وتمنح ذوي الثقافة المحدودة، فرصة للانتشار والتواجد في الفضاء العام، على حساب أصحاب الرؤى العلمية، بما يفرض عليهم الانزواء، حبا أو كرها. الموضوع الثالث، خاص بمعرض الكتاب المنتظر افتتاحه الشهر المقبل، وكل المقدمات تشير إلى أن هناك سلسلة كبيرة من المشاكل تلاحقه، وتهدد بفقدان مكانته الدولية، بدءا من ارتفاع تكاليف إنفاق دور النشر وطباعة الكتاب، بسبب تزايد سعر الدولار، وحتى اختيار الضيوف والمتحدثين في الندوات. فهناك حالة من التململ في صفوف الناشرين العرب والمصريين، ورغبة عارمة لدى كثير من المثقفين في عدم الحضور، فحتى الآن لم يتم حل الأزمات الهيكلية، التي تهدد أهم المعارض الدولية للكتاب، بعد معرض فرانكفورت. كما أن الرسائل التي وجهها عدد محدود من المثقفين لرئيس الوزراء، للتحرك وإنقاذ المعرض، لم تجد صدى عنده، ولا اهتمام بالطبع من جانب وزير الثقافة، مع أن عدم حل المشكلات التي يواجهها المعرض، تنذر بالتأثير على مكانته، عربيا ودوليا، في وقت تزداد بعض المعارض الأخرى بريقا، وهو ما يفقدنا واحدة من قوتنا الناعمة، ويؤكد أن وزارة الثقافة، هي من تساهم في معركة تغييب العقل، وإذا كانت الجهة المنوط بها التنوير، تقف عاجزة، أمام مشكلة بسيطة تتعلق بتنظيم معرض له سمعته الدولية، فكيف نطالبها أن تلعب دورا محوريا في معارك، محاربة الإرهاب، ومحو الأمية الثقافية، وفتح آفاق واعدة لاستعادة الريادة المصرية؟ الاستنتاجات التي يمكن التوصل إليها، من النظرة الأولى، للموضوعات الثلاثة السابقة، تقودنا إلى أن هناك ما يشبه الارتياح الرسمي، لحالة التغييب والانسداد والانغلاق الراهنة، فلو كانت مؤسسات الدولة تدرك حجم الخطورة المترتبة على قيام البعض بالترويج لسيادة ثقافة الجهل على حساب العلم، لما وقفت مكتوفة الأيدي في مواجهة من تجرأوا على الإساءة للدولة، وعملوا على تقزيم دورها الثقافي. وتقودنا أيضا، إلى الشعور بعدم وجود إرادة لتطوير أداء مؤسسات الدولة، تتناسب مع الرغبة المعلنة في التقدم، ففي الوقت الذي نرى تحركات لاستعادة الدور الإقليمي لمصر، لا نجد لذلك صدى على المستوى المحلي، يعزز المحاولات الرامية للوصول لهذا الهدف، كأن هناك جهتين متصارعتين، إحداهما تقود العربة للأمام، وأخرى تصمم على شدها للخلف. في هذا السياق، بدأ البعض يشعر أن عددا كبيرا من المسئولين، والنخب الثقافية والإعلامية، فقدوا الإحساس بحجم الدور الإيجابي المفترض أن يقوموا به، في مجال التوعية والرشادة، واقتصرت مهمتهم على نشر الخرافات، والسعي لتغييب العقل، خوفا من أن يطيح بهم المثقفون الحقيقيون، والتصميم على الحياة في كنف تعميم الجهل، الذي لا يعمل الكثير من المسئولين على مكافحته. يقيني أن أي تقدم يحدث، هو نتاج محاولات فردية، ولا يعبر عن خطة إستراتيجية، بدليل أنك في المؤسسة الواحدة، مهما كان نشاطها، تجد فئة مجتهدة، مقابل مئات الكسالى، من المديرين والموظفين، وهذه الفئة نستمد منها الأمل، إلى أن يأتي يوم وتصبح هي الأغلبية، وتعمل وفقا لرؤية، توقف زحف عمليات تغييب العقل. محمد أبو الفضل
مشاركة :