أي مصير ينتظر الدراما المصرية بعد رحيل الكبار يضع الجمهور المصري، وربما العربي، يده على قلبه خوفا مما ستقدمه له الدراما التلفزيونية في رمضان المقبل، ويتساءل الكثيرون عما يمكن أن يقدمه الجيل الحالي من النجوم بعد رحيل البعض من النجوم الكبار، وتراجع البعض الآخر، احتجاجا وغضبا أو كسلا أو مرضا؟ وهل سوف يظل الجمهور محكوما عليه بمشاهدة دراما الجن والعفاريت والبلطجة والـأكشن المبالغ فيه؟ العربسارة محمد [نُشرفي2016/12/01، العدد: 10472، ص(16)] رحيل محمود عبدالعزيز ترك فراغا في الساحة الدرامية المصرية جيل الكبار من نجوم الدراما المصرية، خلّف وراءه الكثير من القيم، وظل يبحث عن هوية المجتمع وهمومه، ولهذا بقيت أعماله مرجعية حتى الآن وتأريخا لحقب زمنية عربية هامة، بكل ما شهدته من تحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية. وبرحيل الفنان محمود عبدالعزيز مؤخرا، انطفأت شمعة أخرى في تاريخ الدراما التلفزيونية المصرية، بعد أن سبقه الراحلان نور الشريف وممدوح عبدالعليم، ليصبح جيل الكبار مقتصرا على الفنان يحيى الفخراني، بعد أن ابتعد أيضا “العمدة” صلاح السعدني وتوارى الفنان عزت العلايلي وقلّت أعمال حسين فهمي الدرامية. ملامح خاصة هو جيل ذو ملامح شديدة الخصوصية حمل على عاتقه قضايا القومية والانتماء إلى الوطن ومشاركة المجتمع همومه، متوغلا في الكثير من نماذجه وطبقاته المختلفة، ما جعله شديد القرب من جمهوره، مداعبا لأفكاره وأحلامه عبر عقود زمنية متعددة بما كان فيها من لحظات فرح وأوقات تأزم. أسباب كثيرة جعلت من هذا الجيل عنوانا للدراما التلفزيونية المصرية، وكلما شاهدنا أعماله ازددنا حنينا إلى الماضي، ورحنا نترحم على ما وصلت إليه الدراما في الأعوام الأخيرة، من حيث ضياع ملامح الشخصية المصرية وإضفاء الكثير من “التغريب”، وأصبحت الأعمال التلفزيونية الحالية مجرد معادلة لتحقيق الشهرة والمال لأصحابها. “ليالي الحلمية” للفنان يحيى الفخراني وصلاح السعدني، و”الثعلب” لنور الشريف، و”رأفت الهجان” لمحمود عبدالعزيز، كلها أعمال رسخت لهوية الشخصية المصرية في حبها للوطن، و”جدعنتها”، وتلقائيتها في التعامل دون تكلف مبالغ فيه، كما هو الحال الآن، خصوصا أن البعض من هذه الأعمال احتفت بالطبقة المتوسطة وبالأحياء الشعبية وبالحارة المصرية، وعالجت الكثير من المظاهر الاجتماعية. الأعمال التلفزيونية الحالية مجرد معادلة لتحقيق الشهرة والمال لأصحابها على حساب القيم المصرية الأصيلة وتندرج تحت الأسباب التي ساهمت في نجاح التجارب التلفزيونية لهؤلاء الكبار، أن ما قدموه من أعمال كان يشبه النماذج المجتمعية الحقيقية، كالفلاح البسيط “أبوالمعاطي”، هذا الدور الذي يعد إحدى العلامات الهامة في تاريخ محمود عبدالعزيز، والذي قدم من خلاله حالة طبيعية لمواطن بسيط يقع في حب فنانة مشهورة. هناك أيضا مسلسل “محمود المصري” الذي أعاد “الساحر” محمود عبدالعزيز إلى الدراما بعد انقطاع سنوات، و”لن أعيش في جلباب أبي” لنور الشريف، وكلاهما تحدثا عن الشخصية العصامية المكافحة، التي صعدت من أسفل الدرج لتبلغ أوج النجاح. أما يحيى الفخراني فقد اتخذ منهجا جديدا في سنوات عمله الأخيرة، فبعد أن رسخ في الأذهان صورة الأب الصديق والمحب لأبنائه، كما في مسلسلي “نصف ربيع الآخر” و”سكة الهلالي” وغيرهما، راح يبحث عن الجانب الروحاني والإيماني داخل الإنسان، كما في مسلسل “الخواجة عبدالقادر” أو “ونوس”، الذي قدمه في رمضان الماضي. ليس هذا فقط، بل إن موهبة الفخراني ونجاحه في التلفزيون جعلاه يتجه إلى تقديم أعمال أدبية كلاسيكية، مثل “دهشة”، المأخوذ عن أحد أعمال شكسبير، وهي مسرحية “الملك لير” التي سبق أن قدمها على خشبة المسرح القومي. ورغم محاولات النجوم الشباب في السنوات الأخيرة للمنافسة، بشكل متوازٍ مع هؤلاء الكبار بالدراما التلفزيونية، إلاّ أن أحدا منهم لم يفلح في وضع بصمته الخاصة، لا سيما أن أغلب هؤلاء لم يتجهوا للفيديو كنوع من التقرب لشريحة أوسع من الجمهور والتعبير عن همومه، بل كانت “المادة” الهدف المسيطر، خاصة مع ارتفاع الأجور بالدراما التلفزيونية التي تقدر حاليا بالملايين. لم يشغل بال هؤلاء النجوم الشباب أن يقدموا أعمالا تقترب من الحيوات الحقيقية للناس، أو تقدم قدوة أو رمزا، بل كان كل همهم الاستعراض بالعضلات من خلال مشاهد الحركة العنيفة؛ “الأكشن” أو “البلطجة”. غياب الرمز عند مقارنة أعمال الجيل القديم بما حاول بعض نجوم الدراما الجدد تقديمه في السنوات الأخيرة، مثل مسلسل “حرب الجواسيس” لهشام سليم ومنة شلبي، أو “الصفعة” لشريف منير وهيثم زكي، وغيرهما، نجد الفشل في جذب المواطن المصري، كما أن النجوم الذين قدموا هذه النوعية من المسلسلات لم يصبحوا رموزا أو أبطالا في أعين المشاهدين. بالإضافة إلى ذلك فإن الواقع يشير إلى أن العصر الذهبي لجيل المبدعين الكبار تلفزيونيا كان الأنجح تسويقيا على مستوى الفضائيات العربية، خاصةً أنه مازال حريصا على أن يقدم التلفزيون القدوة، في ما يبثه للجمهور، وهو ما تفتقده الدراما المصرية في الوقت الحالي. المنظومة التي عمل من خلالها الكبار جعلتهم أكثر تلقائية في التعامل مع أدوارهم، ولم تكن ظاهرة “تفصيل الأعمال” على مقاس النجوم واضحة المعالم في سنوات نجاح هؤلاء الكبار الأولى في الدراما التلفزيونية، لذلك خلت أعمالهم من الأداء المفتعل وكانوا يندمجون بحق في الشخصية التي يقدمونها. الواقع يشير إلى أن العصر الذهبي لجيل المبدعين الكبار تلفزيونيا كان الأنجح تسويقيا على مستوى الفضائيات العربية، خاصةً أنه مازال حريصا على أن يقدم التلفزيون القدوة، في ما يبثه للجمهور في الماضي، كانت المنافسة بين جيل الكبار تهدف إلى إسعاد الجماهير، واستكمال نجاحاتهم في مشوارهم السينمائي، فجميعهم كانوا يعملون بالاتجاهين جنبا إلى جنب لإيمانهم بأن ذلك واجب قومي، ولم يفكر أحد منهم في اعتزال العمل بقطاع على حساب قطاع آخر بحثا عن المزيد من الشهرة والانتشار. في رمضان المقبل، سوف يكشف النقاب عن العهد التلفزيوني الجديد الذي قد يكون مؤشرا على حال الدراما المصرية مستقبلا، وسوف يشارك أغلب النجوم الرجال في رمضان بأعمال، كأحمد السقا وكريم عبدالعزيز ومحمد رمضان ومصطفى شعبان ويوسف الشريف ومحمد هنيدي. وبالتأكيد هناك آخرون في الطريق، وهؤلاء جميعا من المفترض أن يعبروا عن هوية المجتمع المصري بقضاياه وإشكالياته في المرحلة الحالية، فهل هذا فعلا ما سوف نراه على الشاشة؟ ولا شك في أن المجتمع مليء بالسلبيات، لكن هل هذا مبرر لأن تكون مسلسلات رمضان كلها عاجّةً بالسلبيات؟ لا أحد يطالب النجوم بأن تكون كل أعمالهم إيجابية، إنما لا بد أن تكون هناك توازنات، وهو ما يتطلب ضرورة قيام الدولة بدور قيادي ممثلة في التلفزيون الحكومي، أو حتى مدينة الإنتاج الإعلامي، رغم كونها شركة مساهمة خاصة، من أجل استعادة الأدوار التي كان يقدمها الكبار الراحلون ويتشوق الجمهور إليها كثيرا الآن. :: اقرأ أيضاً عالم الإنتلجينسيا العراقية المشوهة في روايات علي بدر بسمة النمري: الأسئلة الصعبة تثير شهيتي للكتابة مصر وتونس والمغرب وفرنسا في جائزة الشيخ زايد فرع الترجمة الاستثمار في الثقافة بمسقط مؤتمر وقضية
مشاركة :