ثقافة الاعتذار والتسامح.. خلق إسلامي رفيع

  • 12/2/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

كما وضع الإسلام آداباً لقبول الدعوة ينبغي أن يحرص عليها المدعو ويلتزم بأخلاقيات الضيافة حرصاً على مشاعر الداعي، وضع أيضاً آداباً للاعتذار عن عدم قبول الدعوة، والاعتذار عن الخطأ والسهو والتجاوز السلوكي، وألزم كلاً من المعتذر والمعتذر له بآداب وسلوكيات تجسد قيم التسامح والعفو والرحمة التي جاء بها الإسلام. بداية يحدثنا د. عبد الفتاح العواري عميد كلية أصول الدين بالأزهر عن فضيلة الاعتذار باعتبارها خلقاً إسلامياً يؤكد اتزان شخصية صاحبها، وحسن تربيته، فيقول: لا شك أن الاعتذار عن الأخطاء والتجاوزات أدب إسلامي رفيع يؤكد نبل من يقدم عليه، ويبرهن على حسن نواياه، وصدق مقصده، فالإسلام دين يلزم أتباعه بفضيلة الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه، باعتباره أحد مظاهر الأخلاق النبيلة، وبرهان صدق للقلوب الحية، وسجية محمودة لا يتمتع بها إلا من رزقه الله فطرة سوية مثل فطرة الإسلام الخالية من كل كبرياء زائف، ومن كل سلوك متعجرف يعبر عن غرور صاحبه. يضيف: كل من يخطئ ولا يبادر بالاعتذار عن الخطأ هو إنسان ضعيف بعيد كل البعد عن أخلاق الإسلام، ولا يتأدب بآدابه، لأن الاعتذار من شيم الأقوياء، والذين يصرون على الخطأ والتمادي فيه هم الضعفاء. الاعتذار للخالق.. وللبشر والاعتراف بالخطأ كما يقول د. العواري يسبق فضيلة يحتاجها المسلم طوال الوقت وهي التوبة الواجبة للتخلص من الذنوب والآثام، فقد يتعلق خطأ الإنسان وتجاوزه بحق من حقوق الله، وهذا يستوجب التوبة السريعة ومعاهدة الخالق سبحانه عدم العودة إلى الذنب مرة أخرى، ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، وقد يتعلق الخطأ أو التجاوز بحق مخلوق وهذا أمر كثير الحدوث، ولا يستطيع إنسان أن يدعي العصمة من الخطأ سواء في حقوق الله أو حقوق العباد، والاعتذار للخالق عن التجاوز في أمر من أموره هو التوبة الصادقة، والاعتذار للبشر عن التجاوز في حقهم يعني إعادة الحقوق المادية إلى أصحابها أو طلب العفو عنها، والاعتذار عن الإساءات والتجاوزات الأخلاقية. والتمادي في الخطأ وعدم الاعتراف به سلوك أحمق لا يليق بمسلم يتأدب بأدب الإسلام، فالمسلم الحق صاحب شخصية عادلة متزنة، تعرف حقوق الآخرين، ويبادر بالوفاء بها، والاعتذار عن الخطأ حق من حقوق الذين أخطأنا في حقهم، وأهدرنا حقوقهم المادية والإنسانية، ولذلك لا يجوز لمسلم بحال من الأحوال أن يصر على خطأ، أو يدافع عن سلوكه الخاطئ بالباطل، أو يجد حرجا في الرجوع عن الأخطاء والتجاوزات التي صدرت منه. فضيلة غائبة وبصوت مملوء بالحزن والأسى يؤكد عميد كلية أصول الدين بالأزهر غياب فضيلة الاعتراف بالخطأ، وبالتالي ثقافة الاعتذار عن سلوكيات كثير من المسلمين، خاصة الأجيال الجديدة التي تربت على العناد والإصرار على المواقف الخاطئة، ويقول: واجبنا أن نعلم أبناءنا منذ الصغر أن الرجوع إلى الحق فضيلة، وأن الاعتراف بالخطأ سلوك أخلاقي لا يصدر إلا عن أصحاب النفوس القوية، وهو ليس علامة ضعف، بل هو يكشف عن رجاحة العقل والأمانة والنزاهة والإنصاف في التعامل مع الأمور كلها. ولو كانت ثقافة الاعتراف بالخطأ والرجوع إلى الحق فضيلة متأصلة في مجتمعاتنا العربية المعاصرة لجنبناها على المستويين الفردي والأسري وعلى المستوى الدولي الكثير من المشكلات والأزمات، فكم من أشخاص دفعوا حياتهم ثمنا لعنادهم وإصرارهم على مواقف خاطئة، وكم من أسر دفعت أثماناً باهظة لتهور بعض أفرادها وإساءاتهم لآخرين من دون أن يبادر الحكماء والعقلاء إلى الاعتراف بالخطأ ثم الاعتذار.. وكم من دول دفعت وما زالت تدفع من دماء رعاياها ومن خيراتها أثمانا باهظة لحماقات وجرائم وأفكار شيطانية من بعض القائمين عليها وهو ما نشاهده في كثير من النزاعات والصراعات بين الدول العربية والإسلامية نتيجة تجاوزات وأخطاء لم تعالج بالحكمة المطلوبة لحماية الأوطان وحقن دماء أبنائها. سلوك الأقوياء بعد الاعتراف بالخطأ يأتي الاعتذار وهو سلوك الأقوياء الذين يمتلكون شجاعة الرجوع إلى الحق والاعتراف به، وينبغي أن يتم الاعتذار من دون تعالٍ أو تلاعب بالكلمات وتحريف للمعاني كما يفعل البعض، فالاعتذار اعتراف واضح بالخطأ، ودليل على قوة الشخصية التي تقدر أن الوقوع فيه لا يعني أن الشخص سيئ أو أنه فاشل بل هو إفصاح عن سوء الاختيار أو إخفاق في اختيار التصرف السليم. والاعتذار- كما يقول د. طه أبو كريشة عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر- يكسب المعتذر احترام الآخرين، ويشجعهم على التسامح والعفو معه، ومن لم يقابل الاعتذار بتسامح وعفو هو خارج عن إطار الأخلاق الإسلامية التي تلزم المسلم بالعفو والتسامح والرحمة في التعامل مع المخطئ المعترف بخطئه. إن الإنسان السوي هو الذي يقبل أعذار الآخرين ويتعامل معهم بتسامح ويتسلح بخلق العفو عند المقدرة، وقبول اعتذار المعتذر ليس قبولا بالأمر الواقع أو ابتلاع الإهانة، بل هو سلوك المتسامحين المنصفين الذين يعرفون قيمة الصفح والتسامح. أما الذين يرفضون الاعتذار ولا يقبلون أعذار الآخرين ولا يقدرون الظروف الصعبة التي دفعتهم إلى التجاوز والإساءة فهم أصحاب نفوس متشنجة تغيب عنها أخلاق الإسلام، وهؤلاء للأسف غالبا ما يكونون سببا مباشرا في تضخم المشكلات الصغيرة، وتكبير التجاوزات البسيطة بحيث تتحول إلى أزمات ومشكلات كبرى تترك أثرا سيئا على المجتمع أمنياً واقتصادياً، فقد نشبت معارك ضارية بين أسر وعائلات بسبب سلوك طفل أو شاب لم يقبل المتجاوز في حقهم اعتذار ذويه، وما أبشع جرائم الثأر التي تهدد أمن وسلامة المجتمع المصري بسبب رفض الاعتذار والإصرار على الانتقام تحت شعار الكرامة والهيبة، مع أن الصلف لا علاقة له بالكرامة من قريب أو بعيد. وهنا يقول الشاعر الحكيم في شأن كل من يتصلف ويرفض الاعتذار: إذا اعتذرَ الجاني محا العذر ذنبه وكل امرئ لا يقبل العذر مذنب وقال الآخر: إذا ما امرؤ من ذنبه جاء تائباً إليك فلم تغفر له فلك الذنب ضعاف النفوس ويضيف: د. أبو كريشة: ضعاف النفوس هم الذين تأخذهم العزة بالإثم ويتهربون من الاعتذار عن الأخطاء والتجاوزات التي ارتكبوها، وأضعف منهم هم الذين يرفضون قبول الاعتذار. ويواصل: عندما يراجع المخطئ نفسه أو يراجعه أهله فيعترف بالخطأ ويأتي معتذراً ويطلب العفو فيجب أن يجد آذاناً صاغية وقلوباً متسامحة، وعقولاً واعية بمخاطر استمرار النزاعات وعدم تصفية الخلافات. ويعبر عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر عن أسفه لتجاهل أخلاق الإسلام التي تحث على اعتذار المخطئ، وقبول اعتذاره والعفو عنه من جانب الذين أخطأوا في حقهم، ويقول: تراثنا الإسلامي زاخر بقيم وأخلاق التسامح والرحمة والعفو، وتراثنا العربي يزخر هو الآخر بإنتاج الأدباء والشعراء الذين أسهبوا في الحديث عن ثقافة الاعتذار، وكل ذلك لا أثر له في سلوكنا وأخلاقنا، مما يؤكد جحودنا وغياب قيم وأخلاق الإسلام عن حياتنا. الاقتداء بالرسول عالم السنة النبوية د. أحمد عمر هاشم عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر يدعو المسلمين جميعا إلى التخلق بخلق القرآن الذي دعا رسول الإنسانية إلى العفو والرحمة بمن خرجوا على طاعته، فيقول فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، كما ينصح كل مسلم بأن يقتدي برسوله الكريم في التخلق بخلق العفو، ويقول: العفو عند المقدرة من الفضائل الكريمة التي تدل على نبل صاحبها وسماحته، وعلى أصالة معدنه وطيب سجاياه، وهذا الخلق الكريم لا يبدأ من فراغ وإنما ينبع من القلوب الطاهرة النقية التي جبلت على الكرم والإحسان، ولنا في الرسول صلوات الله وسلامه عليه أسوة حسنة في هذا المضمار، فبعد أن فتح الله عليه مكة وأصبح الذين آذوه بالأمس واضطهدوه ومكروا به وأخرجوه، في قبضة يده، وفي وسعه وقدرته، أن ينزل بهم من العقاب ما يشاء إلا أنه واجههم بنفسه السمحة وبعفوه الشامل، فقال لهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. إن العفو عن المسيء - كما يقول د. هاشم- يحول الكاره إلى محب، والعدو إلى صديق، فكما أن للعفو أثره في نفس من يعفو حيث يعينه على التقوى، وعلى راحة الضمير، وسكينة النفس فإن له كذلك أثرا بالغا فيمن يعفو الإنسان عنه، حيث يستشعر خطأه، وإساءته، ويرى كيف قوبل خطؤه بالعفو والإحسان فيثوب إلى الرشد والصواب، وتنطفئ من داخله الكراهية وتذوب النزعة العدوانية ولا يملك إلا أن يكون مع أخيه كأنه ولي حميم، قال الله تعالى: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم. وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم. ما أحوجنا- نحن المسلمين- اليوم إلى ثقافة الاعتذار وإشاعة روح التسامح والعفو والرحمة في مجتمعاتنا لتقوى علاقات المودة بيننا ونحمي مجتمعاتنا من كثير من المشكلات والأزمات التي تصدرها نفوس مشحونة بالغضب والرغبة في الانتقام.

مشاركة :