النسخة: الورقية - دولي من المفيد أن يأتي الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى المنطقة، وإلى السعودية بالذات، في هذا الوقت العصيب والحرج حتى يستمع مباشرة إلى الحقائق الكاملة ويتفهم الحساسيات والهواجس والانتقادات المختزنة للسياسات الأميركية على جميع الأصعدة، ويرى المشهد العربي عن كثب لعله يخرج نفسه وبلاده من حالة الجمود، ويكسر الجليد الذي أحاط بعهده في ولايته الأولى وفي النصف الأول من ولايته الثانية. وأهمية هذه الزيارة أيضاً، أنها تأتي في ظروف معقدة ودقيقة وقضايا متشابكة وأحداث حامية وتطورات متلاحقة، كما أنها تتلازم مع مؤتمر القمة العربية في الكويت (التي تفتتح غداً) إضافة إلى تداعيات الملف النووي الإيراني وأحداث ما بقي من الربيع العربي وانعكاساتها، والأوضاع الحرجة في سورية ولبنان. ومن الأمور الحساسة أيضاً، ما يخطط للقضية الفلسطينية بعد زيارتَي رئيس وزراء إسرائيل بنيامين ناتنياهو والرئيس الفلسطيني محمود عباس واشنطن للبحث في ما سمي «اتفاق الإطار» الذي يسعى إلى فرضه وزير الخارجية الأميركي جون كيري، ويحاول الرئيس أوباما حل عقده وضخ الأوكسجين فيه بعد تعثره. كل هذه الأمور استدعت تشاوراً وحواراً، واقتضت اتخاذ موقف أميركي واضح وحاسم منها بلا لف ولا دوران بعد ما شهدناه من ميوعة وتردد وانحسار تدريجي لدور الولايات المتحدة، ومكانتها في وجه تقدم مستمر لروسيا بقياة فلاديمير بوتين الذي سجل أخيراً نقاطاً عدة على حساب نظيره الأميركي في المنطقة وخارجها وتوّجه أخيراً في إحراج واشنطن والغرب في استخدام القوة العسكرية في أوكرانيا وسيطرته على شبه جزيرة القرم ضارباً عرض الحائط بالتحذيرات والتهديدات بدفع «ثمن» لم يحدد ولم تعرف ماهيته ومدى تأثيره. وبعد كل هذا أصبح القرار الأميركي مطلوباً الآن لأسباب واعتبارات عدة أولها أن الرئيس أوباما لم يعد يخشى من عدم تجديد ولايته، لأنه ملزم حسب الدستور بعدم الترشح لولاية ثالثة وهو الآن في النصف الثاني من ولايته الثانية، أي أنه أصبح حر اليدين في اتخاذ أي قرار بعد معرفة نتائج الانتخابات النصفية للكونغرس هذا العام. كما أن صديقه اللدود بوتين أصبح محرجاً بعد ورطته في أوكرانيا وتماديه في تحدي الولايات المتحدة في جورجيا قبل أوكرانيا ثم في مجلس الأمن وكثير من القضايا الدولية والعربية. ومن الأسباب الأخرى الكلام الصريح الموجّه إلى أوباما من حلفائه المقربين في المنطقة حول التفرد بالقرارات وعدم مشاورتهم، أو الاستماع إلى وجهات نظرهم في أحداث المنطقة، أو حتى إطلاعهم على حقيقة ما يدبر. وعدم النظر بعين الاهتمام بمصالحهم الوطنية وأمنهم القومي، بل حتى عدم معرفة أين مكمن المصالح الأميركية نفسها وكيفية حمايتها وقطع دابر أي تهديد لها. لهذا كله، توضع أمام أوباما ملفات ساخنة، إن لم نقل ملتهبة، عليه معالجتها من الجذور ورسم سياسة جديدة تصحح المسار قبل فوات الأوان، وتعيد وضع خريطة طريق تنزع فتيل التوترات لحل القضايا العالقة وأولها قضية فلسطين في شكل عادل ودائم. أما الملفات الساخنة، فهي على سبيل المثال لا الحصر: - ملف العلاقات السعودية - الأميركية، وكل من تابع أحداث السنتين الماضيتين يدرك جيداً أنها تعرضت لفتــــور وتساؤلات كثيرة، وشهدت اختلافات في المواقف وتقاطـــعات في دوائر عدة، بل وخلافات في المعالجات. وأول سبـــب لهذا التــأزم عدم التشاور من أجل مراعاة الموقف السعودي الذي يدرك أبعاد كل قضية وانعكاساتها وآثارها وأسلوب معالجتها وفق مبدأ «أهل مكة أدرى بشعابها». فهذه العلاقات تعتبر تاريخية وتعود إلى أكثر من ٧٠ سنة في اللقاء المهم بين الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه والرئيس الأميركي روزفلت الذي أسس لشراكة استراتيجية تضمن المصالح المتبادلة وتحترم الخصوصية السعودية وتشدّد على التشاور الدائم في مختلف القضايا والتواصل وعدم التفرد بالقرارات. لهذا، فإن هذه العلاقات لن تعود إلى سابق عهدها، إلا بعودة القيادة الأميركية إلى الأصول وتقيّدها بما تم الاتفاق عليه من قبل. وعلى ضوء سير خط هذه العلاقات تتحدد الأمور في الملفات الساخنة الأخرى وهي: - أمن الخليج وآثار الاتفاق الأميركي - الغربي مع إيران في شأن ملفها النووي، إذ لا بد من تقديم توضيحات أميركية عنه وأسباب عدم التشاور، وما إذا كانت هناك اتفاقات سرية تحت الطاولة حول قضايا المنطقة وتشمل موقف إيران من قضية أمن الخليج وقضايا البحرين والعراق وسورية ولبنان. ورداً على ما قيل عن امتعاض السعودية من الاتفاق، يؤكد المسؤولون السعوديون أن بلادهم لم تكن ضد التفاهم مع إيران، بل إنها نادت على الدوام بتجنب الحلول العسكرية وحل مسألة الملف النووي الإيراني سلمياً، والعمل على تجنيب المنطقة أخطار وجود أي سلاح نووي، إن في الخليج أو في منطقة الشرق الأوسط كلها بما يشمل أسلحة إسرائيل. كما أن خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز مد يديه مراراً لإيران وأقام علاقات مميزة مع الرئيسين هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي، كما فتح نوافذ عدة مع الرئيس السابق أحمدي نجاد، ووجه تهنئة حارة للرئيس الحالي حسن روحاني، ولكن ما جرى على الساحات العربية أثار القلق والمخاوف من النوايا الإيرانية وأحبط هذه الجهود. - ملف «الربيع» ودوله، لا سيما مصر، فقد ظهرت الخلافات واضحة بعد ثورة ٣٠ حزيران (يونيو) من العام الماضي، فالولايات المتحدة بدت داعمة حكم «الإخوان المسلمين» ومدافعة عنه ضمن سياسة كانت تروج لإقامة أنظمة إسلامية وحكم علماني على شاكلة النظام التركي الحالي بزعم أن هذه المعادلة تستطيع مواجهة التطرف وفكر «القاعدة»، وقد ثبت العكس ومنيت السياسة الأميركية بالفشل. أما السياسة السعودية فكانت واضحة وحاسمة في دعم النظام الانتقالي الحالي وواجهت الولايات المتحدة في مصر علناً وقدمت للشعب المصري الدعم المالي والسياسي والمعنوي ليقف على قدميه وينهض من عثرته. وقد عززت السعودية موقفها بقرارات حاسمة ضد الإرهاب وكل من يدعمه. أما بالنسبة إلـــى التباين مع الولايات المتحدة في شأن سورية، فقد بدا الخلاف جلياً في مراحل عدة من الحرب التـــي دخلت عامها الرابع، وتكرس بعد الاتفاق الأميركي - الروسي بتجريد سورية من سلاحها الكيماوي من دون تشاور بعد تهديدات فارغة بالويل والثبور وعظائم الأمور. - ملف القضية الفلسطينية وهو في عز سخونته هذه الأيام حيث يُطبخ أمر ما وسط سعي أميركي محموم للضغط على الفلسطينيين والإسرائيليين لقبول «اتفاق الإطار» الذي يروج له كيري ويدعمه أوباما على أمل أن يسجل إنجازاً في نهاية عهده ظناً منه أنه يرضي العرب ولا يغضب الإسرائيليين. لكن الوقائع تدحض ذلك، إذ إن إسرائيل لن تقبل أي اتفاق إلا بالضغط القوي والفعلي عليها، كما أنها تساوم على أمر خطير جداً وهو الاعتراف بيهودية إسرائيل وهذا يشكل خطراً شديداً لا يمكن أن يقبل به أي إنسان فلسطيني، أو عربي عاقل لأنه ينهي القضية ويدفن آمال الشعب الفلسطيني ويقضي على هوية ووجود أكثر من مليون و٨٠٠ الف فلسطيني من عرب فلسطين المحتلة عام ١٩٤٨. والسعودية تشجع المبادرات السياسية ضمن شروط وثوابت لا تنازل عنها، أولها اعتبار مبادرة السلام العربية التي أطلقها الملك عبدالله هي ضمن الخطوط الحمر التي لا يمكن التراجع عنها، لا سيما بالنسبة للدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف وعلى رأسها تاج المسجد الأقصى المبارك. لهذا، فإن محاولات أوباما لتأمين الدعم لمبادرته ستذهب سدى، إلا إذا طورها لتتماشى مع المبادرة العربية وتتبنى ما قبلت به الإدارات السابقة، لا سيما في عهود الرؤساء جيمي كارتر وبيل كلينتون وجورج بوش الأب (مؤتمر مدريد للسلام) نتيجة لضغوط سعودية، وأخيراً جورج بوش الابن الذي كان قد تعهد للملك عبدالله أن يعلن مبادرة تعترف بالدولتين على أساس مبادرته التي تبناها العرب وعلى أساس قرارات الأمم المتحدة (وهذا كله موثق في رسائل رسمية)، لكن تفجيرات نيويورك وواشنطن في ١١ أيلول (سبتمبر) نسفتها وأعادت القضية إلى نقطة الصفر وحرمت الفلسطينيين من حلم الدولة وعاصمتها القدس، لأنها وقعت قبل أيام من إعلان المبادرة رسمياً في الدورة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة. هذا غيض من فيض الملفات الساخنة والقضايا المهمة التي تحتاج إلى توضيح وحسم وتفاهم وتفهم للموقف السعودي، والمطالب العربية العادلة من جانب الرئيس أوباما، وهو ما يصب في مصلحة الولايات المتحدة قبل غيرها لو أدركت أن إسرائيل لم تجلب لها سوى الخسائر والأحقاد والخذلان كما أن إهمال هذه الحقيقة سيؤدي إلى زيادة التباعد، ويستدعي مواصلة البحث عن تحالفات بديلة في أوروبا وآسيا. وهذا ما بدا واضحاً في الجولة المهمة التي قام بها ولي العهد الأمير سلمان بن عبدالعزيز في الصين واليابان والهند وباكستان وحققت نجاحات كبيرة لتدعيم العلاقات. هنا تكمن أهمية زيارة أوباما ودورها في رسم خريطة طريق مختلفة لمستقبل المنطقة ومصير العلاقات الثنائية. * كاتب عربي
مشاركة :