عندما تتم إهانة الإنسان وكرامته ومقدساته ويتم ضربه وسحله، فماذا نتوقع من هذا الشخص بعد فترة؟ ألن يمتلئ قلبه حقداً وكراهية على البشر والبشرية جمعاء؟ أعيد التأكيد -كما في المقال السابق- أنني لا أبرر أفعال التنظيم بأي شكل من الأشكال؛ فهي أفعال وحشية لا تمت إلى دين الإسلام بصلة، ولكنني أحاول توصيف الطرق التي أدت إلى تشكُّل هذا التنظيم وانتشار أفكاره بين بعض الشباب. كنت قد تحدثت في المقال السابق عن الأسباب السيكولوجية التي تدفع الشباب للانضمام إلى التنظيم، وذكرت نبذة مختصرة عن تاريخ تنظيم الدولة ومراحل تطوره حتى وصوله إلى ما سماه الخلافة. وفي هذا المقال، سأتابع الحديث عن الأسباب التي أدت إلى تشكّل التنظيم ولكن من الناحية الاجتماعية، التي أعتقد أنها المسبب الرئيسي لهذه الظاهرة، فالأسباب النفسية قد تتعلق بأفراد معينين وبحالات فردية معينة، أما الأسباب الاجتماعية فهي تتعلق بالجماعة ككل؛ بل بالأسباب الرئيسية التي أدت إلى نشوء هذا التنظيم وفكره المتطرف. تتنوع الأسباب الاجتماعية بحسب كل بلد وحالته السياسية والاقتصادية، ولكن أغلبها يجتمع ليدفع باتجاه نشأة التنظيم وتسهيل انضمام الشباب إليه. تراكم الظلم الاجتماعي انتشر في البلاد العربية الاستبداد السياسي منذ مدة ليست بالقصيرة واتخذ الحكام من المخابرات وأجهزة الأمن حلاً لهم في التعامل مع شعوبهم، ولم يكتفوا بهذا الأمر؛ بل أنشأ كل حاكم حوله شبكة من رجال الأعمال المتحالفين مع السلطة والذين يسيطرون على مقدرات البلاد الاقتصادية، فارتفعت نسب البطالة والفقر وأصبح الطريق مسدوداً أمام الكثيرين، حيث لا وجود لأمل بالمستقبل ولا فرص لحياة كريمة في الوطن، مما دفع الكثيرين إلى السخط على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية. ففي سوريا على سبيل المثال، استولى حافظ الأسد على السلطة عام 1970 وخلفه ابنه بشار عام 2000، وعلى مدار هذه المدة حُكمت سوريا بالحديد والنار وكانت الكلمة العليا فيها لأجهزة الأمن والمخابرات التي تكاثرت في البلاد مثل الفطر، وأصبحت تتدخل في شؤون الناس وحتى الخاصة منها، وأصبح الحديث عن السياسة في سوريا يقود صاحبه إما إلى السجن وإما إلى الموت. أما على الصعيد الاقتصادي، فقد استولت عائلة الأسد على المقدرات الاقتصادية لسوريا متحالفة مع مجموعة من كبار التجار في حلب ودمشق وشكّلوا العمود الفقري للاقتصاد السوري، فلا تمر صفقة اقتصادية إلا ويكون لهم فيها نصيب الأسد. خلقت هذه الأمور أوضاعاً اقتصادية صعبة للناس في سوريا وتراكمت مظاهر السخط الاجتماعي نتيجة المظالم الكثيرة. وبعد انطلاق الثورة السورية عام 2011، كانت الظروف قد تهيأت لتنظيم الدولة لسهولة اختراق الشباب وتجنيدهم والسيطرة على أراضٍ واسعة في سوريا، وكان قد سبق هذا نشوء التنظيم في العراق لظروف مشابهة لحد كبير بسوريا. الطائفية السياسية انتشرت في بعض البلدان العربية الطائفية بشكل كبير وخاصة في سوريا والعراق، حيث تم تهميش أهل السُنة وإقصاؤهم من الحكم، مما خلق نقمة كبيرة في صفوفهم تُرجمت بعد مدة بأفكار الغلو والتطرف التي تبناها التنظيم. ففي العراق، منذ الاحتلال الأميركي له، بدأ تهميش أهل السنة فيه على قدم وساق، وتمكنت إيران من التحكم في القرار السياسي بالعراق، من خلال مجموعة من السياسيين التابعين لها، على أسس طائفية واضحة لا تخفى على أحد. ومع تقدم السنوات بعد الاحتلال الأميركي وازدياد التدخل الإيراني في العراق على أسس طائفية، اندلعت احتجاجات ومظاهرات واسعة في المدن ذات الغالبية السُّنية عام 2013 ولم يتم الاستجابة لمطالب المتظاهرين؛ بل تعرضوا للقمع المسلح، مما أدى إلى تفاقم مظاهر السخط والنقمة على الحكومة الطائفية، وأدى في النهاية الى سهولة تمدد التنظيم في المناطق السنية. ورغم ما يقوله البعض من أن رئيس الوزراء العراقي وقتها نوري المالكي هو من سهّل دخول التنظيم للموصل بأوامر إيرانية ليُوجدوا الذريعة لتدمير المدن السنية، فإن سوء الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في البلاد هو من شكل اللبنة الأساسية لنشوء التنظيم وتمدده فيما بعد. ازدواجية المعايير الغربية وتجلى هذا الأمر في عدة مظاهر، لعل من أبرزها: أولاً: دعم الغرب للحكومات العربية المستبدة ومحاولته الإبقاء عليها طالما تخدم مصالحه وتحقق أهدافه بالمنطقة، في مقابل قمع هذه الحكومات لشعوبها وتغاضي الغرب عن هذا الأمر. ثانياً: الدعم الصريح وغير المحدود لإسرائيل في احتلالها لأراضٍ عربية واسعة. ثالثاً: أصبح مصطلح الإرهاب مصطلحاً حمّال أوجه وأصبحت الغاية من إطلاقه على فئة معينة غاية سياسية بامتياز، فالغرب في معظمه حصر هذا المصطلح في الجماعات السُّنية، بينما لم يطلقه على الجماعات الشيعية المتطرفة الأخرى رغم ما ترتكبه من جرائم على أسس طائفية مقيتة. هذه الأمور الثلاثة وغيرها أدت إلى ازدياد حدة السخط على الغرب وطريقة تعامله مع قضايانا في المنطقة وخلقت بيئة مناسبة لانتشار فكر تنظيم الدولة بين البعض. مستقبل التنظيم واهمٌ من يعتقد أن تنظيم الدولة (داعش) سينتهي باسترداد مدينتي الموصل أو الرقة منه، فما دامت الأسباب الاجتماعية والنفسية التي ذكرت بعضها موجودة، فالتنظيم لن ينتهي بخروجه من هذه المدينة أو تلك. وأضف إلى هذا، ما يفعله التنظيم من تربية جيل من المقاتلين الجدد من صغرهم على مشاهد الذبح والقتل وباقي الأعمال الوحشية، وهذا تكرر كثيراً في إصداراته الأخيرة، حيث يقوم أطفالٌ، بعضهم لم يبلغ العشرة أعوام، بعمليات ذبح وقتل تشيب لها الولدان، مما يؤذن بخروج جيل جديد من التنظيم في المستقبل قد يكون أكثر تطرفاً ووحشية من هذا الجيل. الحل الوحيد لكبح جماح هذا التنظيم وأشباهه وللحد من انتشار أفكاره المتطرفة، هو إعادة الحقوق إلى أصحابها في العراق وسوريا وغيرها، وإزالة المظالم التي تراكمت على مر السنين الماضية، وإلغاء التمييز الطائفي والعِرقي في هذه البلدان. وعند تحقيق هذه الأمور، فلن يجد حينها التنظيم بيئة مناسبة لنشر أفكاره وسينحسر على نفسه وينتهي تدريجياً. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :